الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَجَعَلۡنَا ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةٗ وَءَاوَيۡنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبۡوَةٖ ذَاتِ قَرَارٖ وَمَعِينٖ} (50)

والربوة : المُرْتَفِعُ من الأرض ، والقرار : التَّمَكُّنُ ، وَبَيِّنٌ أَنَّ ماء هذه الربوة يرى معيناً جارياً على وجه الأرض قاله ابن عباس ، والمعين : الظاهِرُ الجري للعينِ ، فالميم زائدة ، وهو الذي يُعَايَنُ جريُه ، لا كالبئرِ ونحوِهِ ، ويحتمل أن يكون من قولهم : معن الماء إذَا كَثُرَ ، وهذه الربوة هي الموضع الذي فَرَّتْ إليه مريمُ وقتَ وضع عيسى عليه السلام ، هذا قولُ بعضِ المفسرين ، واختلف الناسُ في موضع الربوة ، فقال ابن المُسَيِّبِ : هي الغُوطَةُ بدمشق وهذا أشهر الأقوال لأَنَّ صفة الغُوطَةِ أَنَّها ذات قرار ومعين على الكمال ، وقال كَعْبُ الأَحْبَارِ : الربوة بيت المَقْدِسِ ، وزعم أَنَّ في التوراة أَنَّ بيتَ المقدس أَقْرَبُ الأرض إلى السماء وأَنَّهُ يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلاً .

قال ( ع ) : ويترجَّحُ : أَنَّ الربوة في بَيْتِ لَحْمٍ من بيت المقدس لأَنَّ ولادة عيسى هنالك كانت ، وحينئذٍ كان الإيواءُ ، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه » : اختلف الناس في تعيين هذه الربوة على أقوال منها : ما تُفسِّرُ لغةً ومنها : ما تُفَسَّرُ نقلاً ، فيفتقر إلى صحة سندهِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّ ها هنا نُكْتَةً ، وذلك أَنَّه إذا نُقِلَ لِلنَّاسِ نَقْلَ تواتر أَنَّ هذا موضِعُ كذا ، وأَنَّ هذا الأَمرَ جرى كذا وقع العلم به ، ولَزِمَ قبولهُ لأَنَّ الخبر المتواتر ليس من شرطه الإِيمانُ ، وخبرَ الآحاد لا بدَّ من كون المُخْبِرِ به بصفة الإيمان لأَنَّهُ بمنزلة الشاهد ، والخَبَرَ المتواتر بمنزلة العيانِ ، وقد بَيَّنَا ذلك في «أصول الفقه » ، والذي شاهدتُ عليه الناسَ ورأيتهم يعينونه تعيينَ تواترٍ مَوْضِعٌ في سفح الجبل في غربيِّ دمشق ، انتهى . وما ذكره : من أَنَّ التواتُرَ ليس من شرطه الإيمانُ هذا هو الصحيح ، وفيه خلاف إلاَّ أَنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ هذا متواتر لاختلال شرطه ، انظر «المنتهى » لابن الحاجب .