التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَجَعَلۡنَا ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةٗ وَءَاوَيۡنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبۡوَةٖ ذَاتِ قَرَارٖ وَمَعِينٖ} (50)

لما كانت آية عيسى العظمى في ذاته في كيفيَّة تكوينه كان الاهتمام بذكرها هنا ، ولم تذكر رسالته لأن معجزة تخليقه دالة على صدق رسالته . وأما قوله { وأمه } فهو إدماج لتسفيه اليهود فيما رموا به مريم عليها السلام فإن ما جعله الله آية لها ولابنها جعلوه مطعناً ومغمزاً فيهما .

وتنكير { آية } للتعظيم لأنها آية تحتوي على آيات . ولما كان مجموعها دالاً على صدق عيسى في رسالته جعل مجموعها آية عظيمة على صدقه كما علمتَ .

وأما قوله : { وآويناهما إلى رُبوة } فهو تنويه بهما إذ جعلهما الله محل عنايته ومظهر قدرته ولطفه .

والإيواء : جعل الغير آوياً ، أي ساكناً . وتقدم عند قوله : { أو آوي إلى ركن شديد } في سورة هود ( 80 ) وعند قوله : { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } في سورة هود ( 43 ) .

والرُبوة بضم الراء : المرتفع من الأرض . ويجوز في الراء الحركات الثلاث . وتقدم في قوله تعالى : { كمثل جنة بربوة } في البقرة ( 265 ) . والمراد بهذا الإيواء وحي الله لمريم أن تنفرد بربوة حين اقترب مخاضُها لتلد عيسى في منعزل من الناس حفظاً لعيسى من أذاهم .

والقرار : المكث في المكان ، أي هي صالحة لأن تكون قراراً ، فأضيفت الربوة إلى المعنى الحاصل فيها لأدنى ملابسة وذلك بما اشتملت عليه من النخيل المثمر فتكون في ظله ولا تحتاج إلى طلب قوتها .

والمعين : الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض ، وهو وصف جرى على موصوف محذوف ، أي ماء معين ، لدلالة الوصف عليه كقوله : { حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 11 ] . وهذا في معنى قوله في سورة مريم ( 24 26 ) { قد جعل رَبّك تَحْتَكِ سَريّاً وهُزّي إليك بجذْع النخلة تَسَّاقطْ عليك رُطَباً جَنِيَّاً فَكُلِي واشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً . }