روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوۡنَ لَمَقۡتُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ مِن مَّقۡتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡ إِذۡ تُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلۡإِيمَٰنِ فَتَكۡفُرُونَ} (10)

وقوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } شروع في بيان أحوال الكفال بعد دخول النار .

{ يُنَادَوْنَ } وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي وقعوا فيما وقعوا باتباع هواها حتى أكلوا أناملهم من المقت كما أخرج ذلك عبد بن حميد عن الحسن .

وفي بعض الآثار أنهم يمقتون أنفسهم حين يقول لهم الشيطان : { فلا َتلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] وقيل : يمقتونها حين يعلمون أنهم من أصحاب النار ، والمنادي الخزنة أو المؤمنون يقولون لهم إعظاماً لحسرتهم : { لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } وهذا معمول للنداء لتضمنه معنى القول كأنه قيل ينادون مقولاً لهم لمقت الخ أو معمول لقول مقدر بفاء التفسير أي ينادون فيقال لهم : لمقت الخ ، وجعله معمولاً للنداء على حذف الجار وإيصال الفعل بالجملة ليس بشيء ، و { مقت } مصدر مضاف إلى الاسم الجليل إضافة المصدر لفاعله ، وكذا إضافة المقت الثاني إلى ضمير الخطاب .

وفي الكلام تنازع أو حذف معمول الأول من غير تنازل أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، واللام للابتداء أو للقسم ، والمقت أشد البغض ؛ والخلف يؤولونه مسنداً إليه تعالى بأشد الإنكار .

{ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } أي إذ يدعوكم الأنبياء ونوابهم { إِلَى الإيمان } فتأبون قبوله { فَتَكْفُرُونَ } وهذا تعليل للحكم أو للمحكوم به فإذ متعلقة بأكبر وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى الاستمرار التجددي كأنه قيل : لمقت الله تعالى أنفسكم أكبر من مقتكم إياها لأنكم دعيتم مرة بعد مرة إلى الإيمان فتكرر منكم الكفر ، وزمان المقتين واحد على ما هو المتبادر وهو زمان مقتهم أنفسهم الذي حكيناه آنفاً » .

ويجوز أن يكون تعليلاً لمقتهم أنفسهم وإذ متعلق بمقت الثاني فهم مقتوا أنفسهم لأنهم دعوا مراراً إلى الإيمان فكفروا ، والتعبير بالمضارع كما في الوجه السابق ، وزمان المقتين كذلك ، والعلة في الحقيقة إصرارهم على الكفر مع تكرر دعائهم إلى الإيمان ، وجوز أن يكون تعليلاً لمقت الله و { إِذْ } متعلقة به ، ويعلم مما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ما عليه وما له ، وظاهر صنيع جماعة من الأجلة اختيار كون { إِذْ } ظرفية لا تعليلية فقيل : هي ظرف لمقت الأول ، والمعنى لمقت الله تعالى أنفسكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أشد من مقتكم إياها اليوم وأنتم في النار أو وأنتم متحققون إنكم من أصحابها فزمان المقتين مختلف ، وكون زمان الأول الدنيا وزمان الثاني الآخرة مروي عن الحسن ، وأخرجه عبد بن حميد . وابن المنذر عن مجاهد ، واعترض عليه غير واحد بلزوم الفصل بين المصدر وما في صلته بأجنبي هو الخبر ، وفي أمالي ابن الحاجب لا بأس بذلك لأن الظروف متسع فيها ، وقيل : هي لمصدر آخر يدل عليه الأول أو لفعل يدل عليه ذلك كما في البحر .

وفي «الكشف » فيه أن المقدر لا بد له من جزاآت أن استقل ويتسع الخرق وإن جعل بدلاً فحذفه وأعمال المصدر المحذوف لا يتقاعد عن الفصل بالخبر وليس أجنبياً من كل وجه ؛ وتقدير الفعل أي مقتكم الله إذ تدعون أبعد وأبعد ، وقيل : هي ظرف لمقت الثاني . واعترض بأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت الدعوة بل في القيامة .

وأجيب بأن الكلام على هذا الوجه من قبيل قول الأمير كرم الله تعالى وجهه : إنما أكلت يوم أكل الثور الأحمر وقو لعمرو بن عدس التميمي لمطلقته دختنوس بنت لقيط وقد سألته لبناً وكانت مقفرة من الزاد : الصيف ضيعت اللبن وذلك بأن يكون مجازاً بتنزيل وقوع السبب وهو كفرهم وقت الدعوة منزلة وقوع المسبب وهو مقتهم لأنفسهم حين معاينتهم ما حل بهم بسببه ، وقيل : إن المراد عليه إذ تبين أنكم دعيتم إلى الإيمان المنجي والحق الحقيق بالقبول فأبيتم أو أن المراد بأنفسهم جنسهم من المؤمنين فإنهم كانوا يمقتون المؤمنين في الدنيا إذ يدعون إلى الإيمان وهو أبعد التأويلات ؛ وقال لمكي : { إِذْ } معمولة لا ذكروا مضمراً والمراد التحير والتنديم واستحسنه بعضهم وأراه خلاف المتبادر . وادعى «صاحب الكشف » أن فيه تنافراً بيناً وعلله بما لم يظهر لي وجهه فتأمل .

وتفسير { مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } بمقت كل واحد نفسه هو الظاهر ، وجوز أن يراد به مقت بعضهم بعضاً فقيل : إن الاتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر والرؤساء يمقتون الاتباع لما أنهم اتبعوهم فحملوا أوزاراً مثل أوزارهم فلا تغفل .