البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوۡنَ لَمَقۡتُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ مِن مَّقۡتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡ إِذۡ تُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلۡإِيمَٰنِ فَتَكۡفُرُونَ} (10)

ولما ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ، وذكر شيئاً من أحوال الكافرين ، وما يجري لهم في الآخرة من اعترافهم بذنوبهم واستحقاقهم العذاب وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ، ونداؤهم ، قال السدي : في النار .

وقال قتادة : يوم القيامة ، والمنادون لهم الزبانية على جهة التوبيخ والتقريع .

واللام في { لمقت } لام الابتداء ولام القسم ، ومقت مصدر مضاف إلى الفاعل ، التقدير : لمقت الله إياكم ، أو لمقت الله أنفسكم ، وحذف المفعول لدلالة ما بعده عليه في قوله : { أكبر من مقتكم أنفسكم } .

والظاهر أن مقت الله إياهم هو في الدنيا ، ويضعف أن يكون في الآخرة ، كما قال بعضهم لبقاء { إذ تدعون } ، مفلتاً من الكلام ، لكونه ليس له عامل تقدم ، ولا مفسر لعامل .

فإذا كان المقت السابق في الدنيا ، أمكن أن يضمر له عامل تقديره : مقتكم إذ تدعون .

وقال الزمخشري : وإذ تدعون منصوب بالمقت الأول ، والمعنى : أنه يقال لهم يوم القيامة : إن الله مقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان ، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر ، أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار ، إذ أوقعتكم فيها بأتباعكم هواهن .

انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .

وأخطأ في قوله : { وإذ تدعون } منصوب بالمقت الأول ، لأن المقت مصدر ، ومعموله من صلته ، ولا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد استيفائه صلته ، وقد أخبر عنه بقوله : { أكبر من مقتكم أنفسكم } ، وهذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تخفي على المبتدئين ، فضلاً عما تدعي العجم أنه في العربية شيخ العرب والعجم .

ولما كان الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، لا يجوز قدرنا العامل فيه مضمر ، أي مقتكم إذ تدعون ، وشبيهة قوله تعالى : { إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر } قدروا العامل برجعه { يوم تبلى السرائر } للفصل ب { لقادر } بين المصدر ويوم .

واختلاف زماني المقتين الأول في الدنيا والآخرة هو قول مجاهد وقتادة وابن زيد والآكثرين .

وتقدم لنا أن منهم من قال في الآخرة ، وهو قول الحسن .

قال الزمخشري : وعن الحسن لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا : { لمقت الله } .

وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ، كقوله تعالى :

{ يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً } { وإذ تدعون } تعليل . انتهى .

وكان قوله : { وإذ تدعون } تعليل من كلام الزمخشري .

وقال قوم : إذ تدعون معمول ، لأ ذكر محذوفة ، ويتجه ذلك على أن يكون مقت الله إياهم في الآخرة ، على قول الحسن ، قيل لهم ذلك توبيخاً وتقريعاً وتنبيهاً على ما فاتهم من الإيمان والثواب .

ويحتمل أن يكون قوله : من مقت أنفسكم ، أن كل واحد يمقت نفسه ، أو أن بعضكم يمقت بعضاً ، كما قيل : إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر ، والرؤساء يمقتون الأتباع ، وقيل : يمقتون أنفسهم حين قال لهم الشيطان : { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } ، والمقت أشد البغض ، وهو مستحيل في حق الله تعالى ، فمعناه : الإنكار والزجر .