[ مدنية كما روي عن زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنه سئل الحبر عنها فقال : تلك سورة بدر وفي رواية أخرى أنه قال : نزلت في بدر وقيل : هي مدنية إلا قوله سبحانه وتعالى : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ) الآية فإنها نزلت بمكة على ما قاله مقاتل ورد بأنه صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة وجمع بعضهم بين القولين بما لا يخلو عن نظر واستثنى آخرون قوله تعالى ( يا أيها النبي حسبك الله ) الآية وصححه ابن العربي وغيره ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت لما أسلم عمر رضي الله تعالى عنه وهي في الشامي سبع وسبعون آية وفي البصري والحجازي ست وسبعون وفي الكوفي خمس وسبعون ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن فيها ( وأمر بالعرف ) وفي هذه كثير من أفراد المأمور به وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وفي هذه ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى : ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ) وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى : ( وإذ لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها ) وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا : ( وإذ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ) وبين جل شأنه فيما تقدم إن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له والأمر بذكره تعالى وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عز من قائل : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) إلى غير ذلك من المناسبات والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات .
وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم للصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور بل باجتهاد من عثمان رضي الله تعالى عنه وقد كان يظهر في باديء الرأي أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك كل في اشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة وقد استشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي الله تعالى عنه فقال لعثمان رضي الله تعالى عنه : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموهما في السبع الطول ثم ذكر جواب عثمان رضي الله تعالى عنه وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا ثم قال : وأقول : يتم مقصد عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك بأمور فتح الله تعالى بها الأول أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها ولهذا قال جماعة من السلف : أنهما سورة واحدة والثاني أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فإنه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها وذلك كاف في المناسبة الثالث أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ولا يتوهم هذا على هذا الوضع للعلم بترتب السبع .
فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها إلا غواص الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي لمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتى بالسور الخمس التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والافتتاح ( بالر ) وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف ولبعض هذه الأمور قدمت سمرة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها ولو أخرت براءة عن هذه السور الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فإنها ليست كبراءة في الطول ، ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة ( الر ) قبلها وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح ( بالم ) وتوالي الطواسين والحواميم وتوالي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل ( بالم ) ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها هذا ما فتح الله تعالى به على ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعى السبع الطول فقدم الأطول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول وجعل الأنفال بعد النور ، ووجه المناسبة أن كلا مدنية ومشتملة على أحكام وأن في النور ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) الآية وفي الأنفال ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ) الخ ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل اه . وأقول : قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا الجليل والحمد لله تعالى على ذلك حيث أوقفني سبحانه وتعالى على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه وما ادعاه أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف وذهب جماعة كما قال في إتقانه : إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة وقد ذكر ذلك الفيروزآبادي في قاموسه وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال : كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل .
{ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم * يسألونك عَنِ *الأنفال } جمع نفل بالفتح وهو الزيادة ولذا قيل للتطوع نافلة وكذا لولد الولد ، ثم صار حقيقة في العطية ومنه قول لبيد :
إن تقوى ربنا خير نفل *** وبإذن الله ريثي وعجل
لأنها لكونها تبرعاً غير لازم كأنها زيادة ويسمى به الغنيمة أيضاً وما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين أو لغير معين كمن قتل قتيلا فله سلبه ، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام وغيرهما ، واطلاقه على الغنيمة باعتبار أنها منحة من الله تعالى من غير وجوب ، وقال الإمام عليه الرحمة . لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم ، ووجه التسمية لا يلزم اطراده ، وفي الخبر أن المغانم كانت محرمة على الأمم فتفلها الله تعالى هذه الأمة ، وقيل : لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كون ذلك مظفوراً به سمي غنيمة ، ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص ، فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنماً سواء كان ببعث أولا باستحقاق أولا قبل الظفر أو بعده ، والنفل ما قبل الظفر أو ما كان بغير قتال وهو الفيء ؛ وقيل : ما يفضل عن القسمة ثم إن السؤال كما قال الطيبي ونقل عن الفارسي إما لاستدعاء معرفة أو يؤدي إليها وإما لاستدعاء جدا أو ما يؤدي إليه ، وجواب الأول باللسان وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ويتعدى بنفسه وبعن والباء ، وجواب الثاني باليد وينوب عنها اللسان موعدا وردا ويتعدى بنفسه أو بمن وقد يتعدى لمفعولين كأعطى واختار ، وقد يكون الثاني جملة استفهامية نحو { سَلْ بَنِى إسراءيل * كَمَا * ءاتيناهم } [ البقرة : 211 ] والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روي عن ابن عباس . ومجاهد . وقتادة والضحاك . وابن زيد . وطائفة من الصحابة وغيرهم ، وبالسؤال السؤال لاستدعاء المعرفة كما اختاره جمع من المفسرين لتعديه بعن والأصل عدم ارتكاب التأويل ، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد . وابن حبان . والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وهو سبب النزول أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أهو للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا ؟ فنزلت هذه الآية .
وقال بعضهم : إن السؤال استعطاء . والمراد بالنفل ما شرط للغازي زائداً على سهمه ، وسبب النزول غير ما ذكر . فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف . وعبد بن حميد . وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلاً فله كذا ومن جاء بأسير فله كذا فجاء أبو اليسر بن عمر والأنصاري بأسيرين فقال : يا رسول الله إنك قد وعدتنا .
فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذه زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزل القرآن ، وادعوا زيادة { عَنْ } واستدلوا لذلك بقراءة ابن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص . وعلي بن الحسين . وزيد . ومحمد الباقر . وجعفر الصادق . وطلحة بن مصرف { يَسْأَلُونَكَ الانفال } وتعقب بأن هذه القراءة من باب الحذف والإيصال وليست دعوى زيادة { عَنْ } في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة اسقاط { عَنْ } على ارادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد ، على أنه يبعد القول بالزيادة هنا الجواب بقوله تعالى : { قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول } فإنه المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد ، فإن مبنى ذلك القول القول بأن السؤال استعطاء ولو كان كذلك لما كان هذا جواباً له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونه بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه باذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور .
وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بذلك المعنى مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا حق فيها للمنفل كائناً من كان لا سبيل إليه قطعاً ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل ، وإدعاء أن ثبوته بدليل متأمر التزم لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ الأخير ، ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد . وعكرمة . والسدى من أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حسبما نطق به قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } [ الأنفال : 41 ] الآي ، على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، بل بين هنا إجمالاً أن الأمر مفوض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرح فيما بعد مصارفها وكيفية قسمتها ، وإدعاء اقتصار الاختصاص بالرسول صلى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطة يوم بدر بجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبىء عنه إظهار الأنفال في مقام الاضمار ، على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له عليه الصلاة والسلام خاصة مما يليق بشأنه الكريم أصلاً .
وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فاعجبني فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال عليه الصلاة والسلام : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلاً حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه ، وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه عليه الصلاة والسلام ووعده لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده رده صلى الله عليه وسلم قبل النزول وتعليله بقوله : ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلى الله عليه وسلم بما لا يقدر على إنجازه واعطائه عليه الصلاة والسلام بعد النزول وترتيبه على قوله وقد صار لي ضرورة إن مناط صيرورته له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { الانفال لِلَّهِ والرسول } والفرض إنه المانع من اعطاء المسؤول ، ومما هو نص في الباب قوله تعالى : { فاتقوا الله } فإنه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه قاله شيخ الإسلام عليه الرحمة ، وحاصله إنكار وقوع التنفيل حينئذ ، وعدم صحة حمل السؤال على الاستعطاء والأنفال على المعنى الثاني من معنييها ، وأنا أقول : قد جاء خبر التنفيل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من الطريق الذي ذكرناه ومن طريق آخر أيضاً ، فقد أخرج ابن أبي شيبة . وأبو داود . والنسائي . وابن جرير . وابن المنذر . وابن حبان . وأبو الشيخ . والبيهقي في الدلائل . والحاكم وصححه عنه رضي الله تعالى عنه قال : «لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا فاما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : أشركونا معكم فانا كنا لكم ردءاً ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال } الآية فقسم الغنائم بينهم بالسوية » ويشير إلى وقوعه أيضاً ما أخرجه أحمد .
وعبد بن حميد . وابن جرير . وأبو الشيخ . وابن مردويه . والحاكم . والبيهقي في السنن عن أبي إمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله تعالى من أيدينا وجعله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمه عليه الصلاة والسلام بين المسلمين عن بواء ، ولعل في الباب غير هذه الروايات فكان على الشيخ حيث أنكر وقوع التنفيل أن يطعن فيها بضعف ونحوه ليتم له الغرض .
وما ذكره من حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه أحمد . وابن أبي شيبة عنه وهو مع انه وقع فيه سعيد بن العاصي والمحفوظ كما قال : أبو عبيد العاصي بن سعيد مضطرب المتن ، فقد أخرج عبد بن حميد . والنحاس . وأبو الشيخ . وابن مردويه عن سعد انه قال : «أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : نفلني هذا السيف فأنا من علمت فقال : رده من حيت أخذته فرجعت به حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه عليه الصلاة والسلام فقلت : أعطنيه فشد لي صوته وقال رده من حيث أخذته فانزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال } » .
فإن هذه الرواية ظاهرة في أن السيف لم يكن سلبا كما هو ظاهر الرواية الأولى بل أن سعدا رضي الله تعالى عنه وجده في الغنيمة وطلبه نفلا على سهمه الشائع فيها . وأخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلاً من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخراً عليه جميعا فقال سعد : هو لي وقال الأنصاري : هو لي لا أسلمه حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه فقصا عليه القصة فقال عليه الصلاة والسلام : ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال } الآية ، ومخالفة هذه الرواية للروايتين السابقتين المختلفتين كما علمت في غاية الظهور فلا يكاد يعول على إحداهما إلا بإثبات أنها الأصح ، ولم نقف على أنهم نصوا على تصحيح الرواية التي ذكرها الشيخ فضلاً عن النص على الأصحية .
نعم أخرج أحمد . وأبو داود . والترمذي . وصححه والنسائي وابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . وابن مردويه . والحاكم وصححه . والبيهقي في السنن عن سعد المذكور رضي الله تعالى عنه قال : " قلت يا رسول قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف قال : إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت فقلت : عسى يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي فقلت : قد أنزل في شيء قال عليه الصلاة والسلام : كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي وإني قد وهب لي فهو لك وأنزل الله تعالى هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال } "
الخ ، فهذه الرواية وإن نص فيها على التصحيح إلا أنه ليست طاهرة في أن السيف كان سلباً له من عمير كما هو نص الرواية الأولى ، وإن قلنا : إن هذه الرواية وإن لم تكن موافقة للأولى حذو القذة بالقذة لكنها ليست مخالفة لها ، وزيادة الثقة مقبولة سواء كانت في الأول أم في الآخر أم في الوسط ، فلا بد من القول بالنسخ كما هو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أنها ظاهرة في كون الأنفال صارت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد فيها حق أصلاً إلا أن يجود عليه عليه الصلاة والسلام كما يجوز من سائر أمواله ، والمولى المذكور ذهب إلى القول بعدم النسخ ولم يعلم أن هذا الخبر الذي استند إليه في إنكار وقوع التنفيل يعكر عليه ، وإدعاء أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : فيه «وقد صار لي » أنه صار حكمه لي لكن عبر بذلك مشاكلة لما في الآية يرده ما في الرواية الأخرى المنصوص على حصتها من الترمذي . والحاكم «وإني قد وهب لي » ، وحمل ذلك أيضاً على مثل ما حمل عليه الأول مما لا يكاد يقدم عليه عارف بكلام العرب لا سيما كلام أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم ، وما ذكره قدس سره من أن قوله تعالى : { قُلِ الانفال } الخ لا يكون جواباً لسؤال الاستعطاء فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالرسول عليه الصلاة والسلام لا ينافي الإعطاء بل يحققه ، وقد يجاب عنه بالتزام الحمل الذي ادعى أن لا سبيل إليه قطعاً ويقال بالنسخ ، وهو من نسخ السنة قبل تقررها بالكتاب ، وأن المنسوخ إنما هو ذلك التنفيل ، والتنفيل الذي يقول به العلماء اليوم هو أن يقول الإمام من قتل قتيلاً فله سلبه أو يقول للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس أي بعدما يرفع الخمس اللفقراء ، وقد يكون بغير ذلك كالدراهم والدنانير . وذكر في «السير الكبير » أنه لو قال : ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لم يجز لأن فيه إبطال الخمس الثابت بالنص ، وبعين ذلك يبطل ما لو قال : من أصاب شيئاً فهو له لاتحاد اللازم فيهما بل هو أولى بالبطلان ، وبه أيضاً ينتفي ما قالوا : لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى مصلحة ، وفيه زيادة إيحاش الباقين وإيقاع الفتنة . وذكر السادة الشافعية أن الأصح أن النفل يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح أن نفل مما سيغنم في هذا القتال لأنه المأثور عندهم كما جاء عن ابن المسيب .
ويحتمل أن التنفيل المنسوخ الواقع يوم بدر عن القائل به لم يكن كهذا الذي ذكرناه عن أئمتنا وكذا عن الشافعية الثابت عندهم بالأدلة المذكورة في كتب الفريقين ، والأخبار التي وقفنا عليها في ذلك التنفيل غير ظاهرة في اتحاده مع هذا التنفيل .
وحينئذ فما نسخ لم يثبت وإنما ثبت غيره ، وربما يقال : على فرض تسليم أن ما ثبت هو ما نسخ أن دليل ثبوته هو قوله تعالى : { ياأيها النبى حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال } [ الأنفال : 65 ] فإن في ذلك من التحريض ما لا يخفى ، ودعوى أن حمل أل في الأنفال على العهد يأباه المقام في حيز المنع ، ومما يستأنس به للعهد أنه يقال لسورة الأنفال سورة بدر فلا بدع أن يراد من الأنفال أنفال بدر ، وإنباء الإظهار في مقام الاضمار على ما ادعاه في غاية الخفاء ، وكون الجواب عن سؤال الموعود ببيان اختصاصه به عليه الصلاة والسلام مما لا يليق بشأنه الكريم أصلاً مما لا يكاد يسلم ، كيف والحكم إلهي والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالإبلاغ ، وقد يقال : حاصل الجواب يا قوم إن ما وعدتكم به بإذن الله تعالى قد ملكنيه سبحانه وتعالى دونكم وهو أعلم بالحكم فيما فعل أولاً وآخراً فاتقوا الله من سوء الظن أو عدم الرضا بذلك . ومن هنا يعلم حسن الأمر بالتقوى بعد ذلك الجواب وبطلان ما ادعاه المولى المدقق من أن هذا الأمر نص في الباب ، وقد يقال أيضاً : لا مانع من أن يحمل السؤال على الاستعلام ، والاختصاص على اختصاص الحكم مع كون المراد بالأنفال المعنى الثاني ، والمعنى يسألونك عن حال ما وعدتهم إياه هل يستحقونه وإن حرم غيرهم ممن كان ردأ وملجأ حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ استحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إلى ولم يحجر علي بإعطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردأ لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر فخفى حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البين ، فاتقوا الله تعالى من الاستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعدين به { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } بالرد والمواساة فيما حل بأيديكم { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } في كل ما يأمر به وينهى عنه في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهراً إلا أنه ليس بالبعيد جداً ، ثم ما ذكره قدس سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد ، وعكرمة . والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم ، لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك ، هذا ثم إني أعود فأقول : إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها ، ومجرد ما ذكره المولى قدس سره لا يدل على ذلك ، ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك ، وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للاستعلام أقل مؤنة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك ، والمراد بقوله تعالى : { فاتقوا الله } الخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى ، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولاً أولياً ، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه ، وعن السدي بعدم التساب .
وعن عطاء كان الإصلاح بينهم «أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اقسموا غنائمكم بالعدل : فقالوا : قد أكلنا وأنفقنا . فقال عليه الصلاة والسلام : ليرد بعضكم على بعض » و { ذَاتُ } كماقيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف . و { بَيْنَ } أما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظفر أي أحوالاً ذات افتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم . وقال الزجاج وغيره : إن { ذَاتُ } هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بنه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين ، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول : اسقني ذا إنائك أي ما فيه جعل كؤنه صاحبه ، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم .
وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى أولاً وآخراً لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى ، وقال غير واحد : إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال ، وتوسيط الأمر بإطلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة .
وقرأ ابن محيصن { يَسْأَلُونَكَ } بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ولا اعتداد بالحركة العارضة { إِن كُنتُمْ } متعلق بالأوامر الثلاثة ، والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكورة عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور ، وأياً ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم ، وهو يكفي في التعليق بالشرط ، والمراد بالايمان التصديق ، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة . وقد يراد بالايمان الايمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر ؛ فالمعنى إن كنتم كاملي الايمان فإن كمال الايمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
( هذا ومن باب الإشارة ) : في الآيات : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } إذ لم يرتفع عنهم إذ ذاك حجاب الأفعال { قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول } أي حكمها مختص بالله تعالى حقيقة وبالرسول مظهرية { فاتقوا الله } بالاجتناب عن رؤية الأفعال برؤية فعل الله تعالى { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } بمحو صفات نفوسكم التي هي منشأ صدوركم ما يوجب التنازع والتخالف { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } بفنائها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية الصادقة { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 ] الإيمان الحقيقي