ثم إنه تعالى عاد كلامه إلى بيان بقية أحكام الواقعة وأحوالها وتقرير ما سبق حيث قال سبحانه :{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } الخطاب للمؤمنين ، والفاء قيل واقعة في جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمر بالتثبيت وغير ذلك ، كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم { ولكن الله قَتَلَهُمْ } بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم . وجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتلوهم على معنى فاعلموا أو فاخبركم أنكم لم تقتلوهم ، وقيل : التقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم لما روى أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون : قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت . وقال أبو حيان : ليست هذه الفاء جواب شرط محذوف كما زعموا وإنما هي للربط بين الجمل لأنه قال سبحانه : { فاضربوا فَوْقَ الاعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] وكان امتثال ما أمر به سبباً للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأن الأقدار عليه والخلق له إنما هو لله تعالى ، قال السفاقسي : وهذا أولى من دعوى الحذف . وقال ابن هشام : إن الجواب المنفي لا تدخل عليه الفاء .
ومن هنا مع كون الكلام على نفي الفاعل دون الفعل كما قيل ذهب الزمخشري إلى اسمية الجملة حيث قدر المبتدأ أي فأنتم لم تقتلوهم ، وجعل بعضهم المذكور علة الجزاء أقيمت مقامه وقال : إن الأصل إن افتخرتم بقتلهم فلا تفتخروا به لأنكم لم تقتلوهم ونظائره كثيرة ، ولعل كلام أبي حيان كما قال السفاقسي أولى ، والخطاب في قوله سبحانه : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } خطاب لنبيه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين وهو إشارة إلى رميه صلى الله عليه وسلم بالحصى . يوم بدر وما كان منه . فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال : لما طلعت قريش من العقنقل : هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام فقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان قال لعلي كرم الله تعالى وجهه : أعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها وجوههم فقال : شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وجاء من عدة طرق ذكرها الحافظ ابن حجر أن هذا الرمي كان يوم بدر ، وزعم الطيبي أنه لم يكن إلا يوم حنين وأن أئمة الحديث لم يذكر أحد منهم أنه كان يوم بدر وهو كما قال الحافظ السيوطي ناشيء من قلة الاطلاع فإنه عليه الرحمة لم يبلغ درجة الحفاظ ومنتهى نظره الكتب الست ومسند أحمد ومسند الدارمي وإلا فقد ذكر المحدثون أن الرمي قد وقع في اليومين فنفى وقوعه في يوم بدر مما لا ينبغي ، وذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جداً ، وما ذكره في تقريب ذلك ليس بشيء كما لا يخفى على من راجعه وأنصف .
ويرد نحو هذا على ما روى عن الزهري . وسعيد بن المسيب من أن الآية إشارة إلى رميه عليه الصلاة والسلام يوم أحد فإن اللعين أبي بن خلف قصده عليه الصلاة والسلام فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «استأخروا فاستأخروا فأخذ عليه الصلاة والسلام حربته بيده فرماه بها فكسر ضلعاً من أضلاعه ، وفي رواية خدش ترقوته فرجع إلى أصحابه ثقيلاً وهو يقول : قتلني محمد فطفقوا يقولون : لا بأس عليك فقال : والله لو كانت بالناس لقتلتهم فجعل يخور حتى مات ببعض الطريق .
وما أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق وذلك في خيبر دعا بقوس فأتى بقوس طويلة فقال عليه الصلاة والسلام : جيئوني بقوس غيرها فجاءوه بقوس كبداء فرمي صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله تعالى الآية ، والحق المعول عليه هو الأول ، وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود بيان حال الرمي نفياً وإثباتاً إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمي به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الجم الغفير شيء من ذلك ، والمنعنى على ما قيل : وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لتلك الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة ولكن الله تعالى فعلها أي خلقها حين باشرتها على أكمل وجه حيث أوصل بها الحصباء إلى أعينهم جميعاً ، واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه تعالى وإنما لهم كسبها ومباشرتها قال الإمام : أثبت سبحانه كونه صلى الله عليه وسلم رامياً ونفي كونه رامياً فوجب حمله على أنه عليه الصلاة والسلام رمى كسباً والله تعالى رمى خلقاً ، وقال ابن المنير : إن علامة المجاز أن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته ألاتراك تقول للبليد حمار ثم تقول ليس بحمار فلما أثبت سبحانه الفعل للخلق ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة وثبوته على المجاز بلا شبهة ، فالآية تكفح بل تلفح وجوه القدرية بالرد ، فإن قلت : إن أهل المعاني جعلوا ذلك من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرومي الصوري موجود والحقيقي لم يوجد فلا تنزيل أُجِيبُ بأن الصوري مع وجود الحقيقي كالعدم وما هو إلا كنور الشمع مع شعشعة الشمس ولذا أتى بنفيه مطلقاً كإبثاته ، وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر ، ولذا قال في «شرح المفتاح » النفي والإثبات واردان على شيء واحد باعتبارين فالمنفي هو الرمي باعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة ، والمشهور حمل الرمي في حيز الاستدراك على الكامل وهو الرمي المؤثر ذلك التأثير العظيم ، واعترض المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل لتبادره منه وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طوق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ذلك ليس من افراده وأجيب بأنا لا ندعي إلا الفرد الكامل من ذاك المطلق حسبما تقتضيه القاعدة ، وكون ذلك الفرد جاريا على خلاف العادة وخارجاً عن طوق البشر إنما جاء من خارج ، ووصف الرمي بما ذكر بيان لكماله ، ولا يستدعي ذلك أن لا يكون من أفراد المطلق ومن ادعاه فقد كابر .
واعترض على التفسير الأول بأنه مشعر بتفسير { رمى } في حيز الاستدراك بخلق الرمي وتفسير { رَمَيْتَ } في حيز النفي بخلقت الرمي ، فحاصل المعنى حينئذ وما خلقت الرمي إذ صدر عنك صورة ولكن الله سبحانه خلقه ، ويلزم منه صحة أن يقال مثلاً : ما قمت إذ قمت ولكن الله سبحانه قام على معنى ما خلقت القيام إذ صدر عنك صورة ولكن الله تبارك وتعالى خلقه ولا أظنك في مرية من عدم صحة ذلك وأجيب بأن القياس يقتضي صحة ذلك إلا أن مدار الأمر على التوقيف . واعترض على ما يستدعيه كلام ابن المنير من أن المعنى وما رميت حقيق إذ رميت مجازاً ولكن الله تعالى رمى حقيقة بأن نفى الرمي حقيقة حين إثباته مجازاً من أجل البديهيات فأي فائدة في الإخبار بذلك ، قيل : ومثل ذلك يرد على كلام الإمام لأن كسب العبد للفعل عندهم على المشهور عبارة عن محلية العبد للفعل من غير تأثير لقدرته في إيجاده ويؤول ذلك إلى مباشرته له من غير خلق ، فيكون المعنى وما خلقت الرمي إذ باشرت ولم تخلق وهو كما ترى وهو كما ترى ، وبالجملة كلام أكثر أهل الحق في تفسير الآية والاستدلال بها وكذا بالآية قبلها على مذهبهم لا يخلو عن مناقشة ما ، ولعل الجواب عنها متيسر لأهله .
وقال بعض المحققين : إنه أثبت له صلى الله عليه وسلم الرمي لصدوره عنه عليه الصلاة والسلام ونفي عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر ، ولذا عد ذلك معجزة حتى كأنه صلى الله عليه وسلم لا مدخل له فيه ، فمبنى الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع لأن معناه الحقيقي غير مقصود ، ولا يصح أن تخرج الآية على الخلق والمباشرة لأن جميع أفعال العباد بمباشرتهم وخلق الله تعالى فلا يكون للتخصيص بهذا الرمي معنى وله وجه وإن قيل عليه ما قيل وأنا أقول : إن للعبد قدرة خلقها الله تعالى له مؤثرة بإذنه فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن لا أنه لا قدرة له أصلاً كما يقول الجبرية ، ولا أن له قدرة غير مؤثرة كماهو المشهور من مذهب الأشاعرة ، ولا أن له قدرة مؤثرة بها يفعل ما لا يشاء الله تعالى فعله كما يقول المعتزلة ، وأدلة ذلك قد بسطت في محلها وألفت فيها رسائل تلقم المخالف حجراً ، وليس إثبات صحة هذا القول وكذا القول المشهور عند الأشاعرة عند من يراه موقوفاً على الاستدلال بهذه الآية حتى إذا لم تقم الآية دليلاً يبقى المطلب بلا دليل .
فإذا كان الأمر كذلك فأنا لا أرى بأساً في أن يكون الرمي المثبت له صلى الله عليه وسلم هو الرمي المخصوص الذي ترتب عليه ما ترتب مما أبهر العقول وحير الألباب ، وإثبات ذلك عليه الصلاة والسلام حقيقة على معنى أنه فعله بقدرة أعطيت له صلى الله عليه وسلم مؤثرة بإذن الله تعالى إلا أنه لما كان ما ذكر خارجاً عن العادة إذ المعروف في القدر الموهوبة للبشر أن لا تؤثر مثل هذا الأثر نفى ذلك عنه وأثبت لله سبحانه مبالغة ، كأنه قيل : إن ذلك الرمي وإن صدر منك حقيقة بالقدرة المؤثرة بإذن الله سبحانه لكنه لعظم أمره وعدم مشابهته لأفعال البشر كأنه لم يصدر منك بل صدر من الله جل شأنه بلا واسطة ، وكذا يجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله تعالى رمى بالرعب ، فالرمي المنفي أولاً والمثبت أخيراً غير المثبت في الأثناء وعلى الوجهين يظهر بأدنى تأمل وجه تخالف أسلوبي الآيتين حيث لم يقل : وما رميت ولكن الله رمى ليكون على أسلوب فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ولا فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ليكون على أسلوب { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } ولا يظهر لي نكتة في هذا التخالف على الوجوه التي ذكرها المعظم ، وكونها الإشارة إلى أن الرمي لم يكن في تلك الوقعة كالقتل بل كان في حنين دونه على ما فيه مخالف لما صح من أن كلا الأمرين كان في تلك الوقعة كما علمت فتأمل فلمسلك الذهن اتساع : وقرىء { ولكن الله } بالتخفيف ورفع الاسم الجليل في المحلين { وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا } أي ليعظيهم سبحانه من عنده إعطاء جميلاً غير مشوب بالشدائد والمكاره على أن البلاء بمعنى العطاء كما في قول زهير :
جزى الله بالإحساب ما فعلا بكم *** فأبلاهما خير البلاء الذي يبلى
واختار بعضهم تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده يقال : أبلى بلاء حسناً أي قاتل قتالاً شديداً وصبر صبراً عظيماً ، سمي به ذلك الفعل لأنه ما يخبر به المرء فتظهر جلادته وحسن أثره ، واللام إما للتعليل متعلق بمحذوف متأخر فالواو إعتراضية أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء آخر غير ذلك مما لا يجديهم نفعاً ، وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمي ليمحق الكافرين وليبلي الخ . وقوله تعالى : { إِنَّ الله سَمِيعٌ } أي لدعائهم واستغائتهم أو لكل مسموع ويدخل فيها ما ذكر { عَلِيمٌ } أي بنياتهم وأحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم ويدخل فيه ما ذكر أيضاً تعليل للحكم .
( هذا ومن باب الإشارة ) : في الآيات : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } تأديب منه سبحانه لأهل بدر وهداية لهم إلى فناء الأفعال حيث سلب الفعل عنهم بالكلية ، ويشبه هذا من وجه قوله سبحانه : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } والفرق أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقام البقاء بالحق سبحانه نسب إليه الفعل بقوله تعالى : { إِذْ رَمَيْتَ } مع سلبه عنه ب{ مَا رَمَيْتَ } وإثباته لله تعالى في حيز الاستدراك ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع فيكون الرامي محمداً عليه الصلاة والسلام لا بنفسه ولعلو مقامه صلى الله عليه وسلم وعدم كونهم في ذلك المقام الأرفع نسب سبحانه إليه صلى الله عليه وسلم ما نسب ولم ينسب إليهم رضي الله تعالى عنهم من الفعل شيئاً ، وهذا أحد أسرار تغيير الأسلوب في الجملتين حيث لم ينسب في الأولى ونسب في الثانية ، بقي سر التبعير بالمضارع المنفي { بلم } في حداهما والماضي المنفي { تَفْرَحُواْ بِمَا } في الأخرى فارجع إلى فكرك . فلعل الله تعالى يفتحه عليك : { وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا } ليعطيهم عطاء جميلاً وهو توحيد الأفعال ، والمراد لهذا فعل ذلك { إِنَّ الله سَمِيعٌ } بخطرات نفوسكم بنسبة القتل إليكم { عَلِيمٌ } [ الأنفال : 17 ] بأنه القتل حقيقة وكونكم مظهراً لفعله