فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

قوله :{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } الفاء جواب شرط مقدّر ، أي إذا عرفتم ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة ، وإيقاع الرعب في قلوبهم ، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر .

قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } اختلف المفسرون في هذا الرمي على أقوال : فروي عن مالك أن المراد به : ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم حنين ، فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي ، فأصابت كل واحد منهم . وقيل المراد به : الرمية التي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيّ بن خلف بالحربة في عنقه ، فانهزم ومات منها . وقيل المراد به : السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر ، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق ، وهو على فراشه . وهذه الأقوال ضعيفة ، فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر . وأيضاً المشهور في كتب السير والحديث في قتل ابن أبي الحقيق : أنه وقع على صورة غير هذه الصورة . والصحيح كما قال ابن إسحاق وغيره ، أن المراد بالرمي المذكور في هذه الآية هو : ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم بدر ، فإنه أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فأصابت كل واحد منهم ودخلت في عينيه ومنخريه وأنفه .

قال ثعلب : المعنى { وَمَا رَمَيْتَ } الفزع والرعب في قلوبهم { إِذْ رَمَيْتَ } بالحصباء فانهزموا { ولكن الله رمى } أي : أعانك وأظفرك ، والعرب تقول : رمى الله لك ، أي أعانك وأظفرك وصنع لك .

وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز . وقال محمد بن يزيد المبرد : المعنى { وَمَا رَمَيْتَ } بقوّتك { إِذْ رَمَيْتَ } ولكنك بقوّة الله رميت .

وقيل المعنى : إن تلك الرمية بالقبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ، ولكنها كانت رمية الله ، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم ، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ، لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عزّ وجلّ ، فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلاً ، هكذا في الكشاف .

قوله : { وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا } البلاء ها هنا : النعمة . والمعنى : ولينعم على المؤمنين إنعاماً جميلاً . واللام متعلقة بمحذوف ، أي وللإنعام عليهم بنعمه الجميلة فعل ذلك لا لغيره ، أو الواو عاطفة لما بعدها على علة مقدرة قبلها ، أي ولكن الله رمى ، ليمحق الكافرين ، وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً . { وإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لدعائهم ، عليم بأحوالهم .

/خ18