البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

الرمي معروف ويكون بالسهم والحجر والتراب . { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكّن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً إن الله سميع عليم } لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل قتلت وأسرت فنزلت .

قال الزمخشري : والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع انتهى ، وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } كان امتثال ما أمروا به سبباً للقتل فقيل { فلم تقتلوهم } أي لستم مستبدين بالقتل لأنّ الأقدار عليه والخالق له إنما هو الله ليس للقاتل فيها شيء لكنه أجرى على يده فنفى عنهم إيجاد القتل وأثبت لله وفي ذلك ردّ على من زعم أن أفعال العباد خلق لهم ، ومجيء { لكن } هنا أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات فالمثبت لله هو المنفيّ عنهم وهو حقيقة القتل ومن زعم أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم أوّل الكلام على معنى فلم يتسببوا لقتلكم إياهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة إلى آخر كلامه ، وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفيّة يلم لأنّ لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع لأنّ لنفي الماضي طريقين إحداهما أن تدخل ما على لفظه والأخرى أن تنفيهَ بلم فتأتي بالمضاع والأصل هو الأول لأن النفي ينبغي أن يكون على حسب الإيجاب وفي الجملة مبالغة من وجهين أحدهما أن النفي جاء على حسب الإيجاب لفظاً ؛ الثاني إن نفي ما صرح بإثباته وهو قوله { وما رميْت إذ رميت } ولم يصرّح في قوله { فلم تقتلوهم } بقوله إذ قتلتموهم وإنما بولغ في هذا لأن الرمي كان أمراً خارقاً للعادة مُعجزاً آية من آياتِ الله على أي وجه فسر الرمي لأنهم اختلفوا فيه ، فقال ابن عباس قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قبضة من تراب فقال

« شاهت الوجوه » أي قبحت فلم يبقَ مشرك إلا دخل في عينيه وفيه ومنخريه منها شيء ، وقال حكيم بن حرام فسمعنا صوتاً من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرّمية فانهزموا ، وقال أنس : رمى ثلاث حصيات يوم بدر واحدة في ميمنة القوم واحدة في ميسرتهم وثالثة بين أظهرهم ، وقال : « شاهت الوجوه » فانهزموا .

وقيل الرمي هنا رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأنّ الآية نزلت عقب بدر وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وبعدها وذلك بعيد ، وقيل المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر فسار في الهوى حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهذا فاسد والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا وقوله { وما رميت } نفي { وإذ رميت } إثبات فاحتيج إلى تأويل وهو أن يغاير بين الرميين فالمنفيّ الإصابة والظفر والمثبت الإرسال ، وقيل المنفيّ إزهاق الروح والمثبت أثر الرّمي وهو الجرح وهذان القولان متقاربان ، وقيل ما استبددت بالرمي إذ أرسلت التراب لأنّ الاستبداد به هو فعل الله حقيقة وإرسال التراب منسوب إليه كسباً كان المعنى ، { وما رميت } الرمي الكافي { إذ رميت } ونحوه قول العباس بن مرداس :

وقد كنت في الحرب ذا تدرإ *** فلم أعط شيئاً ولم أمنع

أي لم أعط شيئاً مرضيّاً .

وقيل متعلق المنفي الرّعب ومتعلق المنبت الحصيات أي وما { رميت } الرعب في قلوبهم إذ { رميت } الحصيات ، وقال الزمخشري يعني أنّ الرمية التي رميتها لم ترمِها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم فأثبت الرّمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورة الرمي وجدت منه ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله فكان الله تعالى هو فاعل الرمي حقيقة وكأنها لم توجد من الرسول أصلاً انتهى ، وهو راجع لمعنى القولين أولاً وتقدّم خلاف الفرّاء في { لكن } وما بعدها عند قوله : { ولكن الشياطين كفروا وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً } .

قال السدي ينصرهم وينعم عليهم يقال أبلاه إذا أنعم عليه وبلاه إذا امتحنه والبلاء يستعمل للخير والشر ووصفه بحسن يدل على النصر والعزة ، قال الزمخشري : وليعطيهم عطاء جميلاً كما قال ، فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو .

انتهى ، والبلاء الحسن قيل بالنصر والغنيمة ، وقيل بالشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلاً منهم عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر ومعاذ وعمر وإبنا عفراء أنه قال : لولا أن المفسرين اتفقوا على حمل البلاء هنا على النعمة لكان يحتمل المحنة للتكليف بما بعده من الجهاد حتى يقال إنّ الذي فعله تعالى يوم بدر كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات انتهى .

وسياق الكلام ينفي أن يراد بالبلاء المحنة لأنه قال : { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً } ، فعل ذلك أي قتل الكفار ورميهم ونسبة ذلك إلى الله وكان ذلك سبب هزيمتهم والنصر عليهم وجعلهم نهبة للمؤمنين وهذا ليس محنة بل منحة إن الله سميع عليم لما كانوا قد أقبلوا على المفاخر بقتل من قتلوا وأسر من أسروا وكان ربما قد لا يخلص العمل من بعض المقاتلين إما لقتال حميّة وإما لدفع عن نفس أو ما ختمت بهاتين الصفتين فقيل إن الله سميع عليم لكلامكم وما تفخرون به عليم بما انطوت عليه الضمائر ومن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا .