الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } الآية فقال أهل التفسير والمغازي " لمّا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً قال : هذه مصارع القوم إن شاء الله " ، فلمّا طلعوا عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللّهمّ إنّي أسألك ما وعدتّني فأتاه جبرئيل وقال : خذ حفنة من تراب فارمهم بها " .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا التقى الجمعان لعلّي رضي الله عنه : " أعطني قبضة من حصا الوادي " فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم به في وجوه القوم وقال : " شاهت الوجوه " .

فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة " .

وقال حكيم بن حزام : " لمّا كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء كأنّه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا " .

وقال قتادة وابن زيد : " ذكر له أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى حصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم .

وقال : " شاهت الوجوه " فانهزموا " .

الزهري عن سعيد بن المسيب قال : نزلت هذه الآية في قتل أُبي بن كعب الجمحي . وذلك " أنّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل وهو يفتّه فقال : يا محمد الله يُحيي هذا وهو رميم ؟

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يحيه الله ثمّ يميتك ثمّ يدخلك النار فلمّا كان يوم بدر أسره ثمّ فدي ، فلمّا افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي فرساً أعلفها كل يوم [ فرق ] ذرة لكي أقتلك عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا أقتلك إن شاء الله ، فلمّا كان يوم أُحُد أقبل أُبيّ بن خلف يركض بفرسه ذلك حتّى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " استاخروا " ، فاستأخروا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة في يده فرمى بها أُبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعاً من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون : لا بأس ، فقال أُبي : والله لو كانت الناس لقتلهم ، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله ، فانطلق به أصحابه ينعونه حتّى مات ببعض الطريق فدفنوه "

ففي ذلك أنزل الله هذه الآية { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } الآية .

وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن [ جبير ] " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر دعا بقوس فأُتي بقوس طويلة فقال : جيئوني بغيرها ، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } " فهذا سبب نزول الآية .

فأمّا معناها فإن الله تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنّه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف . وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة من الله تعالى الإنشاء والايجاد بالقدرة القديمة التامّة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة ، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدريّة .

وقيل : إنّما أضافها إلى نفسه لئلاّ يعجب القوم .

قال مجاهد : قال هذا : قتلت ، وقال هذا : قتلت ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال الحسن : أراد فلم تُميتموهم ولكن الله أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره .

قال { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } أي [ قتل ] يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها .

وقال ابن إسحاق : ولكن الله رمى أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتّى هزمهم .

وقال أبو عبيده : تقول العرب : رمى الله لك ، أي نصرك . قال الأعمش : { وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } أي وفّقك وسدّد رميتك .

{ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً } أي ولينعم على المؤمنين نعمه عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب .

وقال ابن إسحاق : ليعرف المؤمنين نعمة نصرهم وإظهارهم على عدوهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا نعمه { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لإقوالهم { عَلِيمٌ } بأفعالهم سميع بأسرارهم عليم بإضمارهم