اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

قوله تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } في هذه " الفاء " وجهان :

أحدهما - وبه قال الزمخشري - : أنَّهَا جوابُ شرطٍ مقدر ، أي : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم .

قال أبو حيان : " وليست جواباً ، بل لِربْطِ الكلامِ بعضه ببعضٍ " .

قوله { ولكن الله قَتَلَهُمْ } قرأ{[17230]} الأخوان ، وابن عامر : { ولكن الله قَتَلَهُمْ } ، { ولكن الله رمى } بتخفيف " لكن " ورفع الجلالة ، والباقون بالتَّشديد ونصب الجلالةِ ، وقد تقدَّم توجيه القراءتين في قوله : { ولكن الشياطين } [ البقرة : 102 ] وجاءت " لكن " هنا أحسن مجيءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات .

قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } نفى عنه الرمي ، وأثبته له ، وذلك باعتبارين ، أي : ما رَمَيْتَ على الحقيقة إذا رَمَيْتَ في ظاهرِ الحال ، أوْ مَا رَميْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذْ رَمَيْتَ الحَصَيَات والتراب .

وقوله : " ومَا رَمَيْتَ " هذه الجملة عطفٌ على قوله : " فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ " ؛ لأنَّ المضارع المنفي ب " لَمْ " في قوة الماضي المنفي ب " مَا " فإنَّك إذا قلت : " لَمْ يَقُمْ " كان معناه : ما قَامَ ولم يقل هنا : فَلَمْ تقتلوهم إذ قتلموهم ، : ما قال : " إذْ رَمَيْتَ " مبالغةً في الجملة الثانية .

فصل

قال مجاهد : " سبب نزول هذه الآية أنَّهم لمَّا انصرفُوا من القتالِ كان الرَّجُلُ يقولُ : أنا قتلتُ فلاناً ، ويقول الآخر مثله فنزلت الآية " ومعناها : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكنَّ الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم{[17231]} .

وقيل : ولكن الله قتلهم بإمدادِ الملائكة .

وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } في سبب نزولها ثلاث أقوال :

الأول : وهو قول أكثر المفسِّرين " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب النَّاس ، فانطلقُوا حتَّى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش ، وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد ، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أين قريش ؟

قالا : هم وراء الكَثيبِ الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل .

فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لهما : كم القومُ ؟ قالا : كثيرٌ .

قال : ما عددهم ؟ قالا : لا ندري .

قال : كم ينحرون كلَّ يوم ؟ قالا : يوماً عشرة ، ويوماً تسعة .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال : فَمَنْ فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبةُ بن ربيعة ، وشيبةُ بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشامُ ، وحكم بن حزام ، والحارثُ بن عامر ، وطعمة بن عديّ ، والنضر بن الحارث ، وأبُو جهل بن هشام ، وأميةُ بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسُهَيل بن عمرو .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هَذِه مَكَّةُ قَدْ ألْقَتْ إلَيْكُمْ أفْلاذَ كَبدِهَا " فلما أقبلت قريش ، ورآها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيبُ الذي جاءوا منه إلى الوادي .

فقال : " اللَّهم هذه قريشُ قَدْ أقبلت بخُيلائِهَا وفَخْرِهَا تُحادكَ ، وتُكذب رسُولكَ ، اللَّهُمَّ فَنصرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي " ، فأتاه جبريل ، فقال : خُذْ قبضةً من تراب ، فارمهم بها ، فلمَّا التقى الجمعان ، تناول رسولُ الله كفاً من الحصى عليه تراب ، فرمَى به وجوه القوم وقال : شاهتِ الوجوه ، فلم يق مشرك إلاَّ ودخل في عينه وفمه ومنخريه منها . فانهزمُوا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . " {[17232]}

وقال قتادةُ وابن زيد : ذكر لنا " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدرٍ ثلاث حصيات فرمَى بحصاة في ميمنة القوم ، وبحصاة في ميسرة القوم ، وبحصاة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا " فذلك قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى }{[17233]} [ الأنفال : 17 ] . إذْ ليس في وُسْع أحد من البشر أن يَرْمي كَفّاص من الحصى إلى وجوه جيش ، فلا تبقى فيهم عينٌ إلاَّ ويُصِيبُهَا منه شيء . وقيل : المعنى : وما بلغت إذ رميت ولكن اللَّه بلغ ، وقيل : وما رميتَ بالرُّعْبَ في قلوبهم إذ رميت بالحصاء ولكن اللَّه رمى الرُّعب في قلوبهم حتى انهزموا .

القول الثاني : أنَّهَا نزلت يوم خيبر . روي أنّه عليه الصَّلاة والسَّلام أخَذَ قوساً وهو على باب خيبر ، فرمى سهماً ، فأقبل السّهمُ حتّى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه ، فنزلت الآية . {[17234]}

القول الثالث : أنَّهَا نزلت في يوم أحد ، وذلك أن أمية بن خلف أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعظم رميمٍ وقَتَّةٍ ، وقال : يا محمَّدُ ، من يُحْيي هذا وهو رميمٌ ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " يُحييه اللَّهُ يُميتُكَ ثم يُحْييك ثم يدخلك النَّار " فأسر يوم بدر ، فلما افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ عندي فرساً أعلفها كلَّ يوم فرقاً من ذرة كي أقتلك عليها .

فقال عليه السَّلامُ : " بَلْ أنا أقْتُلكَ إنْ شاءَ اللَّهُ " فلمَّا كان يوم أحد أقبل أبَيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسْتَأخِرُوا " ورماه بحربة فكسر ضِلعاً من أضلاعه " ، فحمل فمات ببعض الطريق ففي ذلك اليوم نزلت الآية{[17235]} .

والصَّحيحُ أنَّها نزلت في يوم بدر وإلاَّ لدخل في أثناء القصَّة كلام أجنبي عنها ، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع ؛ لأنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّببِ .

فصل

ومعنى الآية : أنَّ القبضةَ من الحصباءِ الَّتي رميتها ، فأنت ما رميتها في الحقيقة ؛ لأنَّ رمْيَكَ لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر ، ولكن اللَّه رماها حيثُ أنفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم ، فصورة الرمية صدرت من الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأثرها إنَّما صدر من الله تعالى ، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات .

واحتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى ؛ لأنَّ الله تعالى قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] .

ومن المعلوم أنهم جرحوا ، فدلَّ هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من اللَّه تعالى .

وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أثبت كونه عليه الصَّلاة والسَّلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً ، فوجب حمله على أنه رماه كسباً وأنه ما رماه خلقاً .

فإن قيل : أما قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } فيه وجوه :

أحدها : أنَّ قتل الكُفَّارِ إنما تيسَّر بمعونة الله ونصره وتأييده ، فصحت هذه الإضافة .

وثانيها : أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله ، والتقدير : فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم .

وأما قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } .

قال القاضي : قيل : فيه أشياء : منها أنَّ الرمية الواحدة لا توجب وصول التُّراب إلى عيونهم ، فكان وصول أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلاَ بإيصالِ اللَّهِ تعالى ، ومنها : أنَّ التُرابَ الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل ، فدل على أنَّ الله تعالى ضمَّ إليها سائر أجزاء التُّرابِ ، فأوصلها إلى عيونهم . ومنها : أنَّ عند رميه ألقى الله الرُّعْبَ في قلوبهم ، فكان المُرَادُ من قوله : { ولكن الله رمى } هو أنه تعالى رمى قلوبهم الرُّعْب .

فالجوابُ : أنَّ كلَّ ما ذكروه عدولٌ عن الظَّاهرِ ، والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ .

قوله : { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين } متعلقٌ بمحذوفٍ ، أي : وليبلي فعل ذلك ، أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة ، أي : ولكن اللَّه رمى ليمحق الكفار ، وليُبْلي المؤمنين ، والبلاء في الخير والشَّر ، قال زهير : [ الوافر ]

. . . *** وإبْلاهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو{[17236]}

والهاءُ في " مِنْهُ " تعود على الظفر بالمشركين .

وقيل : على الرمي قالهما مكيٌّ ، والظَّاهر أنها تعود على الَّلهِ تعالى .

وقوله : " بَلاَءً " يجوزُ أن يكون اسم مصدر ، أي : إبلاء ، ويجوزُ أن يكون أريد بالبلاء نفس الشيء المبلو به ، والمرادُ من هذا البلاء الإنعام أي : ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر .

قال القاضي{[17237]} : ولولا أنَّ المفسرين اتفقوا على حمل البلاءِ هنا على النعمة ، وإلاَّ لكان يحتمل المِحْنَة بالتكليف فيما بعده من الجهاد ثمَّ قال تعالى : { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لدعائكم " عَلِيمٌ " بنيّاتكم .


[17230]:ينظر: حجة القراءات ص 309، إتحاف 2/78، المحرر الوجيز 2/511، البحر المحيط 4/471، الدر المصون 3/409.
[17231]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/203) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/316) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[17232]:انظر معالم التنزيل للبغوي (2/237-238).
[17233]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/204) عن ابن زيد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/316-317) وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وأخرجه الطبري (6/203) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/316) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر.
[17234]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/318) وعزاه إلى الطبري وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير.
[17235]:اخرجه الطبري في "تفسيره" (6/204) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/317) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[17236]:تقدم.
[17237]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 15/113.