التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۖ وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦٓ أَذٗى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖۚ فَإِذَآ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (196)

قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا آمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ) .

إتمام الحج والعمرة أي أداؤهما وإقامتهما على خير وجه من تمام النسك والإخلاص لله .

والعمرة من الاعتمار بمعنى الزيارة . وهي مفرد وتجمع على عمر وعمرات{[265]} .

ومن حيث المعنى الشرعي فهي الحج الأصغر ، وهي ركنها الطواف والسعي وشرطها بينهما وبين الحج في إحرام واحد ، فقد ثبت أن النبي ( ص ) جمع في إحرامه بحج وعمرة{[266]} . وثبت عنه كذلك في الصحيح أنه قال لأصحابه : " من كان معه هدي فليُهل بحج وعمرة " وعنه ( ص ) أنه قال في الصحيح : " دخلت العمرةُ في الحج إلى يوم القيامة " .

أما العمرة من حيث حكمها الشرعي فهي موضع خلاف . فقد ذهب فريق من أهل العلم وفيهم ابن عباس وعطاء وطاووس ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن جبير والشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنها واجبة . واحتجوا لذلك بحديث مرفوع عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن الحج والعمرة فريضتان لا يغُرّك بأيهما بدأت " واحتجوا كذلك بظاهر قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) فقد أوجب إتمامها مثلما أوجب إتمام الحج ، وذلك تكليف بالشيء فهو واجب لا سنة .

وذهب آخرون وهم الحنفية ومالك والنخعي إلى أن العمرة سنة وليست واجبا مستدلين لذلك بما ذكر عن جابر بن عبد الله قال : سأل رجل رسول الله ( ص ) عن الصلاة والزكاة والحج : أواجب هو ؟ قال : " نعم " فسأله عن العمرة : أواجبة هي ؟ قال : " لا وأن تعتمر خير لك " .

أما الآية فقد ردوا الاحتجاج بها على فرضية العمرة وقالوا أن الله سبحانه وتعالى إنما قرنها بوجوب الإتمام لا في الابتداء . أي أن الآية جاءت للإلزام بالإتمام لا للإلزام بالابتداء وهذا هو الراجح والله أعلم{[267]} .

وقوله : ( فإن حضرتم فما استيسر من الهدى ) جاء في هذه الآية أنها نزلت عام الحديبية سنة ست عندما حيل بين النبي ( ص ) وبلوغ البيت الحرام لأداء العمرة .

فرخص الله للمسلمين يومئذ أن يذبحوا ما معهم من هدي وكان سبعين بدنة ، وأن يحلقوا رؤوسهم ، وأن يتحللوا من إحرامهم .

والإحصار لغة معناه المنع والحبس . حصره العدو أو المرض ، وأحصره ، بمعنى منعه أو حبسه{[268]} . والمحصر من حيل بينه وبين بلوغ البيت الحرام لسبب من عدو أو جور سلطان أو مرض .

لكن العلماء اختلفوا في تعيين حقيقة المانع الذي تكون به الرخصة للإحصار . وذلك على قولين . أولهما : أنه العدو خاصة وهو قول جماعة فيهم ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي فقد ذهب هؤلاء إلى أن الحصر يختص بالعدو فلا يتحلل من إحرامه إلا من حصره عدو وليس غيره .

وثانيهما : أن الحصر عام فهو يتناول كل سبب يمنع من الوصول إلى البيت سواء في ذلك العدو أو المرض أو الضلال في الطريق أو غير ذلك من أسباب . وهو ما ذهب إليه بعض السلف منهم ابن مسعود وابن الزبير وسعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير ومجاهد وآخرون غيرهم . وهو ما نرجحه استنادا إلى عموم المدلول لمفهوم الإحصار الذي يتناول جملة العوائق أو الأعذار دون تخصيص . ولما روي عن الرسول ( ص ) قوله : " من كُسر أو وُجع أو عرج فقد حلّ وعليه حجة أخرى " .

وعلى العموم فإن المحصر الذي منعه من بلوغ البيت مانع سواء كان عدوا أو غيره- يتحلل من إحرامه حيث أحصر ثم ينحر هديه ويحلق رأسه . وقيل : يبعث بهديه إلى الحرام إن أمكن ذلك . فإذا بلغ الهدي محلّه صار المحصر حلالا . أي تحلل من إحرامه بمجرد بلوغ الهدي محلّه{[269]} .

وثمة خلاف آخر حول وجوب القضاء على من أحصر . فذهب مالك والشافعي إلى أن من أُحصر بعدو فلا قضاء عليه سواء في الحج أو العمرة ، شريطة أن يكون قد حج الفريضة قبلها ، أو اعتمر عند من أوجبها إيجابا ، فإن حج أو اعتمر قبلها فما عليه من قضاء . وذهب أبو حنيفة إلى أن المحصور بمرض أو عدو عليه حج أو عمرة من قابل أو في وقت يزول فيه الإحصار{[270]} .

وقوله : ( فما استيسر من الهدي ) ما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وخبره محذوف تقديره عليكم . والجملة الفعلية بعده صلة الموصول لا محل لها من الإعراب . وقيل ما في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره انحروا او اهدوا . والهدْي ما يُهدى إلى بيت الله من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم .

ومعنى الآية : انحروا مما كان في ميسوركم من بهيمة الأنعام سواء كان ذلك من الشياه أو الأبقار أو الإبل . وبذلك فإن الشاة مما استيسر من الهدي وأنها تجزئ . وذلك الذي عليه جمهور العلماء . وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت : أهدي النبي ( ص ) مرة غنما .

وفي قول آخر لابن عمر وعائشة وابن الزبير بأنه لا يجزئ في الهدي من الأنعام للمحصر إلا من الإبل والبقر فقط ، ولا يكون الهدي من الشياه . والقول الأول هو الراجح ؛ نظرا للدليل من السنّة الذي ساقه الجمهور واستنادا إلى الظاهر من الآية وهو أن يقدم المحصر ما تيسر له من الأنعام وقد لا يتيسر له غير الشاة في هذه الحال{[271]} .

قوله : ( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) المخاطب بذلك من كان حاجا أو معتمرا سواء كان محصرا أو غير محصر فليس له أن يحلق إلا بعد أن يبلغ هديه موضعه ، وموضع الهدي بالنسبة للمحصر هو موضع إحصاره الذي لا يستطيع مجاوزته إلى البيت العتيق ، كالذي فعله النبي ( ص ) وأصحابه بعد أن صدتهم قريش عن بلوغ البيت عام الحديبية فنحروا ثم حلقوا . وهكذا الحاج أو المعتمر إذا كان في حالة من الإحصار فإنه لا يتحلل من إحرامه بالحلق إلا بعد أني نحر الهدْي في محلّه الذي وقع عليه فيه الإحصار .

وأما موضع الهدْي بالنسبة لغير المحصر فهو البيت العتيق ، فليس له أن يتحلل من إحرامه بالحلق إلا بعد نحره للهدي في محل وهو البيت ؛ لقوله تعالى : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) وذلك في حق الآمن غير المحصر{[272]} .

وقوله : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) .

جاء في سبب نزول هذه الآية ما روي عن كعب بن عجرة أنه كان مع رسول الله ( ص ) فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله ( ص ) أن يحلق رأسه وقال : " صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين مدّين مدّين لكل إنسان ، أو انسك شاة ، أي ذلك فعلت أجزأ عنك " . يستفاد من هذا أن الحاج أو المعتمر في حال الإحرام إذا أصابه في رأسه سوء أو مرض ونحوه مما يؤذيه ويسبب له المضايقة والحرج جاز له أن يحلق رأسه فيُذهب الشعر حيث المرض أو التفث أو الأذى على أن يفتدي بأي الأشياء الثلاثة المذكورة في الآية . وهي إما صيام أيام ثلاثة ، أو إطعام ستة مساكين لكل واحد منهم مدّان ، او تقديم نسك وهو شاة . ولا يشترط في هذه الأشياء الثلاثة الترتيب ، بل للمعذور الرخصة في اختيار منها ما يشاء فورودها في الآية لا يفهم منه الترتيب ، بل التخيير ويعزز ذلك الحديث الذي ذكرناه " أي ذلك فعلت أجزأ عنك " .

وقوله : ( فإذا آمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) إذا ذهب الخوف وزال الإحصار وأصبحتم آمنين ثم فرغتم من القران أو التمتع فعليكم أن تذبحوا ما أمكنكم من الهدي وأقّله شاة . ويؤخذ من هذه الآية تشريع الإحرام بأقسامه الثلاثة : الإفراد والقِران والتمتع . فمن أحرم بالحج وحده كان مفردا ، ومن احرم بالعمرة والحج معا كان قارنا ، ومن أحرم بالعمرة فتحلل منها بعد أدائها ثم أحرم بعد ذلك بالحج في موعده من نفس العام والشهر كان متمتعا . وذلك جائز كله بالإجماع . وأخرج مسلم في صحيحه عن السيدة عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله ( ص ) فقال : " من أراد منكم أن يهلّ بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يُهل بحج فليهلّ ، ومن أراد أن يهلّ بعمرة فليهلّ " قالت عائشة : فأهلّ رسول الله ( ص ) بحج ، وأهلّ به ناس معه ، وأهلّ ناس بالعمرة والحج . وأهلّ ناس بعمرة وكنت فيمن أهلّ بالعمرة .

أما التمتع بالعمرة إلى الحج الوارد في الآية فهو على وجهين :

أولهما : التمتع المعلوم الذي أجمع عليه العلماء ، وهو المراد بقوله سبحانه : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) وكيفيته أن يحرم المسلم بعمرة في أشهر الحج على ألا يكون من أهل مكة ، فإذا قدم مكة واعتمر تحلل من إحرامه وظل مقيما حلالا بمكة حتى موعد الحج فيؤدي مناسكه قبل خروجه إلى بلده كما سنبينه .

ثانيهما : القِران : وكيفيته أن يجمع بين العمرة والحج في إحرام واحد فيهلّ بهما جميعا ويقول حين التلبية : لبيك اللهم بحجة وعمرة معا ، فإذا قدم مكة طاف بالحجة والعمرة طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا . وذلك الذي ذهب إليه مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور ، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين . واستدلوا على ذلك بما أخرجه البخاري من حديث النبي ( ص ) لعائشة : " يسعك طوافك لحجك وعمرتك " وفي رواية أخرى : " يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك " .

وذهب آخرون وفيهم أبو حنيفة والثوري والأوزاعي إلى أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين . واستدلوا لذلك بحديث عن علي كرم الله وجهه أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله ( ص ) فعل .

أما أن يسمى القران تمتعا ؛ فذلك لأن القارن يتمتع بترك السفر وما يتخلله من تعب مرتين . واحدة للعمرة وأخرى للحج فهو إذا متمتع ببحبوحة الاختصار في السفر من مرتين إلى واحدة ويجمعهما معا في إحرام واحد . هذا وجه من التمتع يستفاد من قوله سبحانه : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) {[273]} .

وقوله : ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ) . المتمتع بالعمرة إلى الحج إذا لم يجد هديا لعدم المال أو لعدم البهيمة نفسها ، فإن عليه صيام عشرة أيام . الثلاثة الأولى منها في الحج ، والسبعة الأخرى إذا رجع إلى أهله وبلده ، واختلفوا في موعد الأيام الثلاثة الأولى . فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المتمتع الذي لا يجد هديا يصوم اليوم الذي قبل يوم التروية ثم يوم التروية نفسه ثم يوم عرفة فتلك أيام ثلاثة ، وذهب الشافعي وأحمد بن حنبل إلى صيامهن ما بين الإهلال بالحج إلى يوم عرفة . وقال الثوري والأوزاعي : له صيامهن من أول أيام العشر من ذي الحجة . وقيل : يصومها مادام بمكة في أيام منى وقيل غير ذلك .

ويبقى في ذمته صيام أيام سبعة أخرى . وقد رخص الله له في الآية أن يصومها إذا رجع إلى وطنه ، فقال سبحانه في ذلك : ( وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ) ذلك تأكيد على اكتمال الأيام لتكون عشرة . وهو كقول تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) .

وقوله : ( ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام ) اسم الإشارة عائد على وجوب الدم على التمتع . ويراد به الغريب الذي ليس من أهل مكة . أما أهل مكة فإنهم لا متعة لهم وهو ما يفهم ظاهرا من الآية . فقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول : يا أهل مكة ، لا متعة لكم أحلّت لأهل الآفاق وحرمت عليكم ، وإنما يقطع أحدكم واديا أو قال : يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل " بعمرة . على أنه يمكن تحديد مكان يكون ما دونه داخلا في الحرم ( مكة ) وما كان بعده خارجا من نطاق الحرم . وتحديد ذلك بالمواقيت التي جعلت للحجاج والمعتمرين ليبدأوا منها إحرامهم . وعلى هذا فمن كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة ليس له أن يتمتع . ومن كان أهله وراء المواقيت كان غريبا عن مكة فله أن يتمتع{[274]} .


[265]:- مختار الصحاح ص 454.
[266]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 230 وفتح القدير جـ 1 ص 194 وتفسير الطبري جـ 2 ص 122.
[267]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 230 وفتح القدير جـ 1 ص 194 وتفسير الطبري جـ 2 ص 122.
[268]:- المصباح المنير جـ 1 ص 150.
[269]:- بداية المجتهد جـ 1 ص 301 ، 302 والكشاف جـ 1 ص 344.
[270]:- بداية المجتهد جـ 1 ص 302، 303 وتفسير القرطبي جـ 2 ص 376.
[271]:- الكشاف جـ1 ص 344 وفتح القدير جـ 1 ص 195، 196 وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 231.
[272]:- الكشاف جـ 1 ص 344 وتفسير البيضاوي ص 42
[273]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 233، 234 وتفسير الطبري، جـ 2 ص 141 وما بعدها.
[274]:- تفسير الطبري جـ 2 ص 147 – 150 وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 233، 234