التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

قوله : ( الزانية والزاني فاجدلوا كل واحد منهما مائة جلدة ) بدأ بذكر الزانية قبل الزاني لإيجاب الحد إذا تحققت شروطه . أما البداية بذكر الزانية قبل الزاني ؛ فإنها تزجي بالسؤال عن سبب ذلك . ولعل الجواب عن ذلك أن فاحشة الزنا إنما تؤتى في الغالب من قبل المرأة . وذلك يعني أن المرأة أقدر من الرجل على صون نفسها بالاصطبار والاستعصام وطول الاحتمال دون السقوط في الزنا ، فضلا عن خصلة الاحتجاز والأنفة اللذين فطرت عليهما المرأة ، فإنها بطبعها تجنح للتماسك والاحتجاز والأنفة عن المراودة أو التحرش من قبل الرجال الذين يندفعون في الغالب صوب النساء لقضاء أوطارهم منهن . وليس أدل على هذه الحقيقة من أن المرأة في الغالب لا تأتي بل إنها تؤتى . فالرجل يتقدم نحوها مبتغيا راغبا . والمرأة من جهتها تستقبل دون أن تبرح مكانها ولا تريم .

ولئن كانت المرأة قد فطرت على الاحتجاز والانثناء والأنفة ؛ فإن الرجل أضعف في احتباس نفسه دون التقدم والاندفاع جهة الجنس الآخر . لا جرم أن هذه خصلة من خصال الضعف المحسوبة على الرجال في مقابلة النساء .

وعلى هذا فإن المرأة من جهتها تمسك بصمام الأمان للحيلولة دون وقع الفاحشة . فإن هي استرخت أو أذنت للرجل الدنو منها أو مسها كان الرجل شديد الاندفاع في عجل لقضاء الشهوة المشبوبة . وحينئذ تقع الفاحشة ويتوجب العقاب الصارم . وهذه حقيقة مستفادة من قوله في تحذير النساء من اللين ورقة الخطاب أمام الرجال : ( فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ) أي لا تخاطبن الرجال إلا في جد واستقامة بعيدا عن بواعث الريبة والفتنة والإغراء الذي يثيره لين القول ورقة الخطاب المتكلف .

وبذلك لا يُتصور وقوع الزنا بغير إذن من المرأة وقبولها . فإن هي استعصمت مجتنبة ظواهر الإغراء وتكلف الخطاب ، فما يستطيع الرجل بعد ذلك أن يفعل شيئا إلا أن يجترئ في وقاحة شرسة فينقض انقضاض الكاسر المجنون .

حد الزنا

الزنا خسيسة من خسائس المجتمعات البشرية . وهو رذيلة من الرذائل التي تدنّس الفرد والجماعة بما تفضي إليه هذه الفاحشة المستقذرة النكراء من خلط المياه وتزييف النسل والأنساب وإشاعة الفوضى والظنون في المجتمع ، وتبديد الثقة بين الأزواج والزوجات ، وإضعاف التلاحم وعرى المودة بين الناس . والإكثار من نسبة الطلاق والأولاد غير الشرعيين ؛ من أجل ذلك ندد الإسلام تنديدا بهذه الفاحشة المستقبحة وأعدّ من أجلها العقاب الرادع سواء في ذلك الزاني المحصن أو غير المحصن .

على أن الزنا الموجب للحد يعني الوطء من البالغ العاقل في قُبُل أو دُبر ممن لا عصمة بينهما ولا شبهة وهو قول الجمهور . بخلاف الحنفية ؛ فإن الزنا الموجب للحد عندهم ما كان في القبل دون الدبر .

وثمة شروط لوجوب حد الزنا وهي :

الشرط الأول : التكليف ؛ فإنه لا يقام الحد على الصغير والمجنون والمعتوه ، ولا على النائم أو المكره ؛ وذلك لما أخرجه أبو داود بسنده عن عائشة ( رضي الله عنها ) أن رسول الله ( ص ) قال : " رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل " .

الشرط الثاني : الاختيار . وذلك أن يكون كل من الزناة أو الزواني مختارا غير مكره . فأيما إكراه في وقوع الزنا يندرئ به الحد . وذلك في حق المرأة معلوم لا خلاف فيه . أما الرجل المكره على الزنا ففي حده خلاف ؛ فقد ذهبت الحنبلية والمالكية في الراجح من مذهبهم إلى حده . خلافا للشافعي وآخرين ؛ إذ قالوا بعدم وجوب الحد على الزاني المكره استنادا إلى عموم الخبر : " رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .

أما الحنفية : فإن الإكراه الذي يندرئ به الحد عندهم ما كان بفعل السلطان . أما الإكراه من غير السلطان فلا يمنع من وقوع الحد على الزاني المكره{[3212]} .

الشرط الثالث : العلم بالتحريم ؛ فإنه يُعذر من جهل التحريم . كما لو كان الزاني حديث عهد بالإسلام ، أو ناشئا ببادية بعيدة عن المسلمين . وتفصيل ذلك في مواضعه من كتب الفقه .

الشرط الرابع : انتفاء الشبهة ؛ فإن الشبهة في الزنا تدرأ منه الحد ؛ لأن الحدود مبنية على الدرء والإسقاط بالشبهات . وفي ذلك أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا " .

وروى الترمذي أيضا عن عائشة قالت : قال رسول الله ( ص ) : " ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم . فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ؛ فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " .

وضروب الشبهات في هذا الصدد كثيرة . كالوطء في نكاح مختلف في صحته . مثل النكاح بغير ولي ، أو بغير شهود ، أو في نكاح المتعة ، أو نكاح الشغار . وكذلك نكاح الأخت في عدة أختها . ونكاح الخامسة في عدة الزوجة الرابعة المطلقة طلاقا بائنا . وتفصيل ذلك في مظانه .

الشرط الخامس : ثبوت الزنا في حضرة الحاكم ؛ لأن الحاكم منوط به وحده إيقاع الحد على الزاني . فإن ثبت الزنا أمام غير الحاكم ؛ لم يجب الحد ، وينسحب ذلك على سائر الحدود والقصاص والتعزير .

ثبوت الزنا

يثبت الزنا بأحد شيئين :

أحدهما : الإقرار . وهو اعتراف الزاني أو الزانية بوقوع الزنا صراحة وفي وضوح لا لبس فيه ولا تردد . وصورة ذلك : أن يقر الزاني أو الزانية بوقوع الزنا أربعة أقارير ، على أن يكون الإقرار طوعا من غيره إكراه . فأيما إكراه على الإقرار ينخرم معه الشرط فلا يجب الحد .

ثانيهما : البينة . وهي الشهادة من أربعة شهود عدول على حصول الزنا ، على أن تتفق شهادات الشهود جميعا فيصفوا الزنا وصفا حقيقيا متطابقا . وأيما اختلاف بين شهادات الشهود ؛ فإنه يندرئ به الحد . وتفصيل ذلك في مظانه من كتب الفقه{[3213]} .

عدم ثبوت الزنا بالحمل

لا يثبت حد الزنا بالحمل ، فلو أن امرأة غير مزوجة حملت لا يقام عليها حد ما لم تعترف بالزنا أو يثبت ذلك بالشهادة كما بيناه سابقا . وهو قول الجمهور من الفقهاء . ووجه ذلك : أن الحمل لا يتجاوز في الإثبات مستوى القرينة من القرائن . أو هو ليس غير احتمال من الاحتمالات التي لا تثبت بها الفاحشة . وذلك في ذاته شبهة يندرئ بها الحد .

حد المحصن وغير المحصن

المحصن من الحصن وهو الموضع المنيع المصون . ومنه الإحصان بمعنى الصون والحماية{[3214]} والمحصن في الشرع معناه المتزوج . سمي بذلك لتحصنه بالزواج من الفتنة والوقوع في الفاحشة .

أما المحصن إذا زنا ، سواء كان ذكرا أو أنثى ، فقد وجب في حقه حد الرجم بالحجارة حتى الموت . وقد ثبت حد الرجم عن طريق السنة . بما لا يحتمل الشك .

ومن جملة ذلك ما أخرجه أبو داود وآخرون من أصحاب السنن عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( ص ) : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب ؛ جلد مئة ورمي بالحجارة . والبكر بالبكر ؛ جلد مائة ونفي سنة " . وكذلك أخرج أبو داود عن ابن عباس أن النبي ( ص ) قال لماعز بن مالك : " لعلك قبّلت أو غمزت أو نظرت " قال : لا . قال " أفنكتها ؟ " قال : نعم . قال : عند ذلك أمر برجمه ، وكذلك أخرج أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : " رجم نبي الله ( ص ) رجلا من اليهود وامرأة زنيا " وغير ذلك من الأخبار في رجم المحصن كثير . وقال ابن المنذر في هذا الصدد : أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت . وبذلك يثبت وجوب الرجم على الزاني المحصن .

على أن الرجم لا يجتمع مع الجلد . فإذا ثبت الزنا من المحصن وجب في حقه الرجم فقط . وهو قول أكثر أهل العلم وفيهم الحنفية والشافعية والمالكية ، وكذا الحنبلية في إحدى الروايتين لهم . وقد روي ذلك عن عبد الله بن مسعود . وقال به النخعي والزهري والأوزاعي وأبو ثور . واحتجوا لذلك بأن النبي ( ص ) رجم كلا من ماعز والغامدية ولم يجلدهما .

وقيل : يجتمع الجلد والرجم . فإذا زنا المحصن وجب جلده ثم رجمه . وهو قول الحسن البصري وإسحاق وداود بن علي الظاهري . وهي الرواية الثانية للحنبلية .

واستدلوا لذلك بقوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) فقالوا : هذا النص يفيد العموم لكن السنة جاءت بالرجم في حق الثيب ، والجلد في حق البكر . {[3215]}

حد غير المحصن

غير المحصن : وهو البكر إذا زنا ؛ فإنه يحد مائة جلدة ثم يغرب سنة خارج بلده . وسنعرض لمسألة التغريب إن شاء الله .

وقد ثبت حد الزنى للبكر بالكتاب الحكيم أي في هذه الآية ( الزانية والزاني فاجدلوا كل واحد منهما مائة جلدة ) وكذلك في السنة مما أخرجه أئمة الحديث عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( ص ) : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر ، جلد مائة ونفي سنة . والثيب بالثيب ؛ جلدة مائة والرجم " .

وروى البخاري وأحمد عن أبي هريرة أن النبي ( ص ) " قضى فيمن زنا ولم يحصن بنفي عام ، وإقامة الحد عليه " .

وهل يجب التغريب ، وهو النفي ، مع الجلد في حق البكر إذ زنا ؟ ثمة قولان في ذلك : القول الأول : وجوب التغريب مدة سنة سواء كان ذلك قبل الجلد أو عقبه . وهو قول الجمهور من الشافعية والمالكية والحنبلية وأهل الظاهر . وقد روي ذلك عن الخلفاء الراشدين . وبه قال ابن مسعود وابن عمر . وهو مذهب عطاء وطاووس والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور . ودليل ذلك ما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت أن النبي ( ص ) قال : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب بالثيب ؛ جلدة مائة ورمي بالحجارة ، و البكر بالبكر ، جلد مائة ونفي سنة " .

القول الثاني : عدم وجوب التغريب في حد البكر . وإنما حده الجلد فقط . وهو قول الحنفية . واستدلوا بقوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) فقد أمر بالجلد ولم يذكر التغريب ، فمن أوجبه فقد زاد على كتاب الله عز وجل والزيادة عليه نسخ ، ولا ينسخ نص الكتاب بخبر الواحد{[3216]} .

إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالزنا وحده مما لا يتسع لذكره المجال أكثر مما ذكرنا . وتفصيل ذلك في مظانه من كتب الفقه .

قوله : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) أي لا يمنعكم عن طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحد على الزناة والزواني ، رحمة بهم أو شفقة عليهم . وذلك بترك الحد أو تخفيف الضرب كيلا يوجع ؛ بل تجب إقامة الحد بالضرب الوجيع في غير تبريح ولا مبالغة جزاء للزاني على ما اقترف ، وردعا لغيره من الناس ممن تسوّل له نفسه الوقوع في الفحش .

قوله : ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) يعني أقيموا حدود الله كجلد الزاني والزانية إن كنتم مصدقين بالله واليوم الآخر . والمراد التحريض على إقامة الحد من غير تردد أو إبطاء .

قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) أي ليحضر حد الزانيين طائفة من المؤمنين . واختلفوا في المراد بالطائفة . فقد قيل : الواحد فما زاد طائفة . وقيل : الطائفة ثلاثة نفر فصاعدا . وقيل : أربعة نفر فصاعدا طائفة .

والمراد من حضور الطائفة : توبيخهما وتعنيفهما وزيادة التنكيل بهما ، وافتضاح أمرهما ؛ فيكون ذلك أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما فضلا عما في ذلك من ازدجار للناس . فإن من شهد الحد يتعظ به ويشيع حديثه فيعتبر به غيره{[3217]} .


[3212]:-المغني جـ 8 ص 187 والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 282 وحاشية الخرشي ومعه حاشية العدوي جـ8 ص 80.
[3213]:- حاشية الخرشي جـ8 ص 78 والأحكام السلطانية للماوردي ص 25 وبدائع الصنائع جـ7 ص 37 والكافي لابن قدامة جـ3 ص 204 وأسهل المدارك جـ3 ص 167. والمدونة جـ 4 ص383.
[3214]:- تهذيب اللغة للأزهري جـ 4 ص 244، وأساس البلاغة للزمخشري جـ 1 ص 179 ولسان العرب جـ 1 ص 655.
[3215]:- المغني جـ8 ص 160 والمهذب جـ 2 ص 272 وبداية المجتهد جـ2 ص 435 وأحكام القرآن لابن العربي جـ1 ص 359.
[3216]:- الكافي جـ 3 ص 215 وبلغة السالك ومعها حاشية الدردير جـ2 ص 424 وحاشية الخرشي جـ8 ص 84 والأحكام السلطانية ص 23.
[3217]:- تفسير ابن كثير جـ 3 ص 262 وتفسير القرطبي جـ 12 ص 166 وأحكام القرآن لابن العربي جـ 3 ص 1314.