التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

قوله تعالى : { الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ( 4 ) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ( 5 ) } هذه الآية في حكم القذف الذي يعتدي به النساء العفيفات بالإذاية من القول الفاحش مما فيه طعن لشرفهن ومس بسمعتهن . وذلك بالتهمة الظالمة المفترية التي لا يسعفها دليل ولا بينة .

وقوله : ( يرمون ) أي يشتمون . و ( المحصنات ) يعني العفائف من النساء . والمراد : رميهن بضد العفاف وهو الزنا . من أجل ذلك أعد الله للمعتدين على سمعة النساء العفائف بقذفهن بفاحش الزنا- عقوبة الحد وهو الضرب ثمانين جلدة ثم رد شهادتهم وتفسيقهم .

قوله : ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) أوجب الله لإثبات الزنا خاصة دون غيره من الحقوق ، أربعة شهداء . وتلك رحمة من الله بالعباد ؛ إذ يريد لهم الستر والصون والرعاية من كل أذى .

وتشريع الشهادة بأربعة شهود عدول يصون الفرد والجماعة من طمع المرتابين المتعجلين الذين يبادرون لابتغاء الهلكة للمقذوفين فضلا عن تشنيع سمعتهم وإثارة الريبة من حولهم . وبذلك فإن تشريع العقوبة للقاذف بحده ثمانين جلدة يكف عن الناس ألسنة السوء ، ويدرأ عنهم بذاءة القول الفاحش صونا لسمعتهم وكرامتهم ، وتنبيها للمرتابين الظانين بالناس سوءا أنهم محدودون بالضرب على ظهورهم إذا ما اندلقت من ألسنتهم مقالة الشتم والطعن في أعراض الأبرياء من غير حجة أو برهان .

حد القذف

القذف في الشرع ، معناه الرمي بالزنا صراحة أو دلالة . كأن يقول لإنسان : يا زان . أو يا لوطي . ونحو ذلك من الألفاظ الصريحة الدالة على القذف بالزنا . أو كان الرمي كناية . كقوله لإنسانة : يا قحبة أو يا فاجرة{[3220]} .

شروط حد القذف

هذه شروط خمسة لوجوب الحد على القاذف وهي :

الشرط الأول : أن يكون القاذف مكلفا . وهو كونه عاقلا بالغا غير مكره . فلا يقام الحد على القاذف المجنون أو الصبي أو المكره على القذف . وذلك للخبر : " رفع القلم عن ثلاثة ، عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم " وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .

الشرط الثاني : أن يكون المقذوف محصنا . وذلك للآية هنا : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) وبذلك لا يجلد من قذف غير المحصنات أو المحصنين . والمحصنة أو المحصن هو المسلم الحر العاقل البالغ العفيف . وعلى هذا فإن المحصنين . والمحصنة أو المحصن هو المسلم الحر العاقل البالغ العفيف . وعلى هذا فإن صفات المقذوف خمسة وهي : العقل والبلوغ والحرية والإسلام والعفة . فلا يجب الجلد على قاذف المجنون أو الصبي أو العبد أو الكافر أو غير المتعفف وذلك لضعف شعورهم بالمعرّة . وغير المتعفف يراد به المتهتك المريب الذي يرد مواطن الفحش والخنا .

والجمهور من أهل العلم ، على أنه لا حد على قاذف الكافر لانعدام غيرته على عرضه أو ضعف إحساسه بالعار إذ قذف . وقيل : يحد قاذف المرأة الكتابية المزوجة من مسلم أو كان لها ولد مسلم .

أما لفظ المحصنات فهو على أربع معان هي : العفائف ، ثم ذوات الأزواج ، ثم الحرائر ، ثم المسلمات . لقوله تعالى : ( فإذا أحصن ) أي أسلمن .

الشرط الثالث : أن لا يكون القاذف والدا للمقذوف . ويندرج في الولد ، الأصل أو من علاه . فلو قذف والد ولده أو حفيده فإنه لا يحد . ووجه ذلك : أن عقوبة القذف تجب لحق آدمي . فلا تجب للولد على والده كالقصاص . أما إذا قذف الولد أباه أو أمه فقد وجب عليه الحد وهو قول الجمهور من الفقهاء{[3221]} .

الشرط الرابع : القذف بالزنا . وهو نوعان بيناهما سابقا . وجملة ذلك : أنه صريح وكناية . فالصريح : هو القول الظاهر الذي لا يحتمل غير مفهوم الزنا ، كقوله : يا زاني أو أنت زنيت . أو فرجك زنا ؛ فذلك قذف صريح يجب به الحد على القاذف . وأما الكناية : فهي التكلم بكلام يحتمل القذف بالزنا وغيره . كقوله لها : يا فاجرة . أو يا خبيثة أو يا قحبة . أو قال لرجل : يا مخنث أو يا فاجر ونحو ذلك من الكلام الذي يحتمل أكثر من معنى . ومثل هذا القذف المحتمل لا يجب به الحد . وهو قول الحنيفية ، والحنبلية في الراجح من مذهبهم . وثمة قول في المذهب بوجوب الحد . وكذلك الشافعية لا يجب الحد عندهم في قذف الكناية أو التعريض في القول إلا إذا نوى القاذف ذلك . وبذلك لا يجب الحد في قذف الكناية لاستتار النية ؛ فإن محلها القلب . أما المالكية فإنهم يوجبون الحد في القذف الصريح والكناية . حتى لو عرّض القاذف تعريضا بالمقذوف وجب عليه الحد{[3222]} .

الشرط الخامس : عدم إثبات القذف بأربعة شهداء . فإذا لم يكن مع القاذف غير نفسه أو كان معه غيره ولم تكتمل بهم عدة الأربعة من الشهود العدول لم تقبل شهادتهم بل كانوا جميعا قذفة ليجب في حقهم الحد{[3223]} .

وللمستزيد من أحكام القذف أكثر مما بيناه هنا أن يراجع ذلك في مظانه من كتب الفقه .

قوله : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) الجلد ، معناه الضرب{[3224]} والمخاطب ، الإمام ، أو ولي الأمر الذي يسوس المسلمين بشرع الله فهو منوط به تنفيذ الحدود . وثمانين ، منصوب على المصدر . وجلدة ، منصوب على التمييز{[3225]} .

واختلفوا في حد القذف ، هل هو حق من حقوق الله كحد الزنا ؟ فهو من حقوق الله عند الإمام أبي حنيفة وأتباعه . وعند المالكية والشافعية أنه حق من حقوق المقذوف . وهو الراجح ؛ لأنه يتوقف على مطالبة المقذوف ، ويصح له الرجوع عنه . وهو لا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف . وهو قول الجمهور .

قوله : ( ولا تقبلوا لهم شهداء أبدا ) معطوف على وجوب جلدهم ؛ أي عاقبوهم بالجلد وعدم قبول شهادتهم ، فقد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة . وذلك مدة حياتهم . وهو تأويل قوله : ( أبدا ) .

قوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) أي الخارجون عن طاعة الله بكذبهم وافترائهم على المقذوفين بالباطل .


[3220]:- الأحكام السلطانية ص 29 والروض المربع بشرح زاد المستنقع للشيخ منصور البهوتي جـ 2 ص 386.
[3221]:- تحفة الفقهاء للسمرقندي جـ3 ص 25 ومغني المحتاج جـ4 ص 155 والمبسوط جـ 9 ص 118 وأحكام القرآن للشافعي جـ1 ص 307-311 والكافي جـ3 ص 217 وأسهل المدارك جـ3 ص 173.
[3222]:- الكافي جـ 3 ص 20 والبدائع جـ 7 ص 42 وأسهل المدارك جـ 3 ص 173 وحاشية الخرشي جـ8 ص 87. والمغني جـ8 ص 217 والمبسوط جـ9 ص 115.
[3223]:- المبسوط جـ9 ص 115 والمهذب جـ2 ص 272 والمغني جـ 8 ص 217 والهداية جـ2 ص 112.
[3224]:- مختار الصحاح ص 107.
[3225]:- البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 192.