التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونٞ} (51)

قوله : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } نزلت هذه الآية حين أراد الكفار أن يعينوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصيبوه بالعين . فنظر إليه قوم من قريش فقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حججه . وكانت العين في بني أسد حتى أن الناقة السمينة والبقرة السمينة تمرّ بأحدهم فيعينها ( يصيبها بعينه ) ثم يقول : يا جارية خذي المكتل والدرهم فأتينا بلحم من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر . وذكر أن رجلا كان معروفا بأنه عائن . أي يصيب بعينه الدابة أو الإنسان فما يلبث أن يهلك . فسأله المشركون أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ، فعصم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل هذه الآية {[4608]} { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } إن ، مخففة من الثقيلة . ليزلقونك ، من الإزلاق وهو التنحية والإزالة . يقال : زلقه وأزلقه يزلقه تزليقا إذا نحّاه وأبعده ، وزلق رأسه يزلقه زلقا إذا حلقه{[4609]} .

لقد أراد المشركون إزلاق النبي صلى الله عليه وسلم بإهلاكه وموته ، وهو المستفاد من قوله : { ليزلقونك بأبصارهم } أي ليعتانونك . رجل معيان وعيون ، أي شديد الإصابة بالعين{[4610]} وقيل : يصرعونك أو يصرفونك { بأبصارهم } أي بعيونهم فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه لفرط عداوتهم لك . وجملة القول أنهم يبتغون أن يصيبوك بالعين لإهلاكك .

أما العين فإنها حق وهي تصيب المعيون فتودي به . وفي ذلك روى مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين " وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول : " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامّة " .

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد أو جابر بن عبد الله أن رسول الله اشتكى فأتاه جبريل فقال : " بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل حاسد وعين ، الله يشفيك " وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن العين حق " .

وروى ابن ماجه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استعيذوا بالله فإن النفس حق " . وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق لتورد الرجل القبر والجمل القدر ، وإن أكثر هلاك أمتي في العين " .

وروى عن علي ( رضي الله عنه ) أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتمّا فقال : يا محمد ما هذا الغم الذي أراه وجهك ؟ قال : " الحسن والحسين أصابتهما عين " قال : صدّق بالعين فإن العين حق ، أفلا عوّذتهما بهؤلاء الكلمات ؟ قال : " وما هن يا جبريل " قال : قل اللهم ذا السلطان العظيم والمنّ القديم ذا الوجه الكريم وليّ الكلمات التامات والدعوات المستجابات عاف الحسن والحسين من أنفس الجن وأعين الإنس . فقالها النبي صلى الله عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عوذوا أنفسكم ونساءكم وأولادكم بهذا التعويذ فإنه لم يتعوذ المتعوذون بمثله " .

قوله : { ويقولون إنه لمجنون } ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن . وذلك لفرط حسدهم وكراهيتهم له ، ولروعة ما سمعوا من الكلام العجيب الذي لم يسمعوا بمثله من قبل . فلم يجدوا من فرية يفترونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يرموه بالجنون وهم موقنون بصدقه وأمانته ورجاحة عقله وروعة ما جاءهم به .


[4608]:أسباب النزول للنيسابوري ص 293، 294.
[4609]:مختار الصحاح ص 274، والمصباح المنير جـ 2 ص 273.
[4610]:القاموس المحيط جـ 4 ص 254.