اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونٞ} (51)

قوله : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ } «إنْ » المخففة من الثقيلة : «ليُزلقُونَكَ » ، أي : يغتالونك بأبصارهم ، قرأها نافع{[57702]} : بفتح الياء ، والباقون : بضمها .

فأما قراءة الجماعة : فمن أزلقه ، أي : أزال رجله ، فالتعدية بالهمزة من أزلق يزلق .

وأما قراءة نافع ، فالتعدية بالحركة ، يقال : زَلِقَ - بالكسر - وزلقتُه - بالفتح ، ونظيره : شترت عينه - بالكسر - وشترها الله - بالفتح . [ وقد تقدم لذلك أخوات ] .

وقيل : زلقه وأزلقه - بمعنى واحد - إزلاقاً ، إذا نحاه وأبعده ، وأزلق برأسه يزلقه زلقاً ، إذا حلقه .

قال القرطبي : «وكذلك أزلقه ، وزلقهُ تزليقاً ، ورجل زلقٌ وزُملق - مثال هُدَبِد - وزمالِق وزملِق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع ، حكاه الجوهري وغيره » .

والباء في «بأبْصارهِمْ » إما للتعدية كالداخلة على الآلة ، أي : جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك ك «عملت بالقدوم » ، وإما للسببية ، أي : بسبب عيونهم .

وقرئ{[57703]} : «ليُزْهقونَكَ » من زهقت نفسه ، وأزهقها .

ثم فيه وجوه :

أحدها : أنهم من شدة تحديقهم ، ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة ، والبغضاء يكادون يزلقون قدمك من قولهم : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أنشد ابن عباسٍ لما مر بأقوام حددوا النظر فيه : [ الكامل ]

4837 - نَظَرُوا إليَّ بأعْيُنٍ مُحَمَرَّةٍ*** نَظَرَ التيُوسِ إلى شِفارِ الجَازِرِ{[57704]}

فصل في المراد بالنظر

أخبر الله تعالى بشدة عداوتهم للنبي صلى الله عليهم وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين ، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله ، ولا مثل حججه .

وقيل : كانت العين في بني أسد ، حتى إن البقرة السمينة ، أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول : يا جارية ، خذي المكتل والدرهم ، فأتنا بلحم هذه الناقة فما تبرح حتى تقع الناقة للموت فتنحر .

وقال الكلبيُّ : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرجع جانب الخباء ، فتمر به الإبل والغنم ، فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين ، فأجابهم ، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد : [ الكامل ]

4838 - قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسبُونَكَ سيِّداً***وإخَالُ أنَّك سَيِّدٌ مَعْيُونُ{[57705]}

فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية{[57706]} .

وذكر الماورديُّ : أن العرب كانوا إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً يعني في ماله ونفسه يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله ، فيقول : بالله ما رأيتُ أقوى منه ، ولا أشجع ، ولا أكبر منه ، ولا أحسن فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .

قال القشيريُّ : وفي هذا نظرٌ ؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغضِ ، ولهذا قال : «ويقولون : إنه لمجْنُونٌ » أي : ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن .

قال القرطبيُّ{[57707]} : أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا ، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله ، ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك .

فمعنى الكلمة إذاً التنحية والإزالة ، وذلك لا يكون في حق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته .

قال الهرويُّ : أراد ليغتالونك بعيونهم ، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك .

وقال ابن عباس : ينفذونك بأبصارهم{[57708]} ، يقال : زلق السَّهم ، وزهق إذا نفذ ، وهو قول مجاهد أي : ينفذونك من شدة نظرهم .

وقال الكلبي : يصرعونك{[57709]} ، وعنه أيضاً والسُّدي وسعيد بن جبير : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة{[57710]} .

وقال العوفي : يرمونك .

وقال المؤرج : يزيلونك .

وقال النضر بن شميل والأخفش : يفتنونك .

وقال الحسن وابن كيسان : ليقتلونك كما يقال : صرعني بطرفه ، وقتلني بعينه .

قوله : { لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } من جعلها ظرفية جعلها منصوبة ب «يُزْلقُونكَ » ، ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً للدلالة ، أي : لما سمعوا الذِّكر كادوا يزلقونك ، ومن جوز تقديم الجواب ، قال : هو هنا متقدم{[57711]} .

والمراد بالذكر القرآن ، ثم قال : { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } وهو على ما افتتح به السُّورة ،


[57702]:ينظر: السبعة 647، والحجة للقراء السبعة 6/312، وإعراب القراءات 2/382، وحجة القراءات 718.
[57703]:ينظر: الكشاف 4/597، والمحرر الوجيز 5/354، ونسبها لابن مسعود، وينظر: البحر المحيط 8/311، وزاد: ابن عباس، والأعمش، وعيسى.
[57704]:ينظر الرازي 30/88.
[57705]:البيت للعباس بن مرداس. ينظر ديوانه 108 وجمهرة اللغة ص 956، والحيوان 2/142 وشرح التصريح 2/395، وشرح شواهد الشافية ص 387، واللسان (عين)، والمقاصد النحوية 4/574، وأوضح المسالك 4/404، والخصائص 1/261، وشرح الأشموني 3/766، والمقتضب1/102. وأمالي ابن الشجري 11/113، والقرطبي 18/166، والبحر 8/311، وروح المعاني 29/46.
[57706]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/165).
[57707]:الجامع لأحكام القرآن 18/166.
[57708]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/204) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/403) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
[57709]:ذكره القرطبي (18/166) وذكره الطبري (12/204).
[57710]:ينظر المصدر السابق.
[57711]:ينظر: الدر المصون 6/360.