مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونٞ} (51)

قوله تعالى : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } فيه مسألتان :

المسألة الأولى : إن مخففة من الثقيلة واللام علمها .

المسألة الثانية : قرئ : { ليزلقونك } بضم الياء وفتحها ، وزلقه وأزلقه بمعنى ويقال : زلق الرأس وأزلقه حلقه ، وقرئ ليزهقونك من زهقت نفسه وأزهقها ، ثم فيه وجوه ( أحدها ) أنهم من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك من قولهم : نظر إلي نظرا يكاد يصرعني ، ويكاد يأكلني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله ، قال الشاعر :

يتقارضون إذا التقوا في موطن *** نظرا يزل مواطئ الأقدام

وأنشد ابن عباس لما مر بأقوام حددوا النظر إليه :

نظروا إلي بأعين محمرة *** نظر التيوس إلى شفار الجازر

وبين الله تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن وهو قوله : { لما سمعوا الذكر } ( الثاني ) منهم من حمله على الإصابة بالعين ، وهاهنا مقامان ( أحدهما ) الإصابة بالعين ، هل لها في الجملة حقيقة أم لا ؟ ( الثاني ) أن بتقدير كونها صحيحة ، فهل الآية هاهنا مفسرة بها أم لا ؟ .

المقام الأول : من الناس من أنكر ذلك ، وقال : تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة ، وهاهنا لا مماسة ، فامتنع حصول التأثير .

واعلم أن المقدمة الأولى ضعيفة ، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن ، فإن كان الأول لم يمتنع اختلاف النفوس في جواهرها وماهياتها ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا اختلافها في لوازمها وآثارها ، فلا يستبعد أن يكون لبعض النفوس خاصية في التأثير ، وإن كان الثاني لم يمتنع أيضا أن يكون مزاج إنسان واقعا على وجه مخصوص يكون له أثر خاص ، وبالجملة فالاحتمال العقلي قائم ، وليس في بطلانه شبهة فضلا عن حجة ، والدلائل السمعية ناطقة بذلك ، كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال : «العين حق » وقال : «العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر » .

والمقام الثاني : من الناس من فسر الآية بهذا المعنى قالوا : كانت العين في بني أسد ، وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء ، فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا عانه ، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فعصمه الله تعالى ، وطعن الجبائي في هذا التأويل وقال : الإصابة بالعين تنشأ عن استحسان الشيء ، والقوم ما كانوا ينظرون إلى الرسول عليه السلام على هذا الوجه ، بل كانوا يمقتونه ويبغضونه ، والنظر على هذا الوجه لا يقتضي الإصابة بالعين .

واعلم أن هذا السؤال ضعيف ، لأنهم وإن كانوا يبغضونه من حيث الدين لعلهم كانوا يستحسنون فصاحته ، وإيراده للدلائل . وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين قراءة هذه الآية . ثم قال تعالى : { ويقولون إنه لمجنون } وهو على ما افتتح به السورة .