السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونٞ} (51)

{ وإن } هي المخففة ، أي : وإنه { يكاد الذين كفروا } أي : ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل ، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف .

ولما كانت إن مخففة أتى باللام التي هي عَلَمها فقال : { ليزلقونك بأبصارهم } أي : ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد أن يصرعك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم ، أو يهلكونك من قولهم : نظر إلي نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أي : لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعل قال القائل :

يتقارضون إذا التقوا في موطن *** نظرا يزل مواطئ الأقدام

وقيل : أرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش ، وقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حجمه ، وقيل : كانت العين في بني إسرائيل فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول : لم أر كاليوم مثله إلا عانه حتى أن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ، ثم يقول : يا جارية خذي المكتل والدرهم ، فائتينا من لحم هذه الناقة فما تبرح الناقة حتى تقع للموت فتنحر . وقال الكلبي : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم ، فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب إلا قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين فأجابهم ، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد :

قد كان قومك يحسبونك سيدا *** وأخال أنك سيد معيون

فعصم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية ، وذكر الماوردي أن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول : تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكبر منه ولا أحسن ، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وروى أبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال : «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر » . وعن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم قال : «نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين » . وقال الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية ، وقرأ نافع بفتح الياء والباقون بضمها وهما لغتان يقال : زلقه يزلقه زلقاً ، وأزلقه يزلقه إزلاقاً .

وقال ابن قتيبة : ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه ، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك . { لما سمعوا الذكر } أي : القرآن نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك ، وقال الزجاج : يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك { ويقولون } أي : قولاً لا يزالون يجددونه حسداً وبغضاً على أنهم لم يزدهم تمادي الزمان إلا حنقاً { إنه لمجنون } أي : ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن .