التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مدنية وهي عظيمة في معانيها ومضامينها ومشاهدها وقصصها ؛ ففيها فيض من الأحكام والدروس والمواقف والأخبار نعرض لها في هذا البيان الإجمالي المقتضب .

فالسورة تتضمن السبب في كونها غير مبدوءة بالبسملة . ولها عدة أسماء هي : براءة ، والتوبة ، والمقشقشة ، والمبعثرة ، والمشردة ، والمخزية ، والفاضحة ، والمثيرة ، والحافرة ، والمنكلة ، والمدمدمة ، وسورة العذاب . فهي تقشقش{[1]} من النفاق ؛ أي تبرئ منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها ، وتحفر عنها ، وتفضحهم وتنكلهم ، وتشرد بهم ، وتخزيهم ، وتدمدم عليهم{[2]} . وعن حذيفة ( رضي الله عنه ) قال : إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب . والله ما تركت أحدا إلا نالت منه{[3]} .

وفي السورة تبرؤ من الله ورسوله من العهد الذي كان بين المسلمين والمشركين على نحو ما نبينه تفضيلا في موضعه إن شاء الله .

وفي السورة ذكر للأشهر الحرام ، وبيان لمعناها وحكم القتال فيها .

وفي السورة تنديد بالغ بالاستيثاق بالمشركين ؛ فإنهم ماكرون خادعون لا يرقبون في المؤمنين إلا ولا ذمة .

وفي السورة تحريض على قتال المشركين الظالمين إذا ما نكثوا العهود مع المسلمين فباءوا بالغدر والخيانة .

وفي السورة تحذير شديد من الافتتان بأولي القربى من الآباء والأبناء والإخوة وكذا الزوجات والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن .

وتندد السورة بإشراك أهل الكتاب الذين اتخذوا عزيزا والمسيح والأحبار والرهبان أربابا من دون الله .

وتتضمن السورة كذلك تحذيرا رعيبا من فظاعة الكنز للمال إذا لم تؤد زكاته ؛ فهو سحت يحمي عليه في نار جهنم لتكوى به جلود الذين يمنعون الزكاة من الكانزين .

وأما الله في السورة بقتال المشركين كافة مثلما يقاتلون المسلمين كافة . وفيها ذكر كريم ومؤثر لقصة الهجرة ؛ إذ أوى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق إلى الغار فكانت المعجزة الظاهرة والخبر المثير .

ويتناول السورة بيانا مجملا للصدقات ، والذين يستحقونها وهم الأصناف الثمانية .

وتتناول أيضا الكشف عن المنافين بما يفضحهم فضها ويعريهم للسامعين والناظرين تعرية تميط اللثام عن خبثهم وفساد قلوبهم ومقاصدهم .

وفي السورة في مقابلة ذلك –إطراء للمؤمنين والمؤمنات ؛ لأن بعضهم أولاء بعض في فعل الطاعات والنعي عن المعاصي والمنكرات .

وفي السورة إخبار عن مسجد الضرر الذي يتدسس من خلاله المنافقون ليفتنوا المريب تحذيرا . ومن أبرز ما حوته السورة ذكر الثلاثة الذين خلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم من اجل ذلك ندم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ؛ لفرط ما غشيهم من الأسف على ما فرطوا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم تاب الله عليهم .

إلى غير ذلك من المسائل والأحكام والأخبار التي نبينها تفضيلا في موضعها بمشيئة الله .

بيان تفصيلي للسورة

قوه تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عهدتم من المشركين 1 فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين } .

هذه السورة العظيمة من أواخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روي البخاري عن البراءة قال : أخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وآخر سورة نزلت براءة . وإنما لم يبسمل في أولها ؛ لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه . وقد روي الترمذي بإسناده عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر { بسم الله الرحمان الرحيم } ووضعتموها في السبع الطوال . ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ( ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدية وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكان قصتها شبيهة بقصتها وخشيت أنها منها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ؛ فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر { بسم الله الرحمان الرحيم } ووضعتها في السبع الطوال{[1708]} .

قوله : { براءة من الله ورسوله } { براءة } ، مرفوع خبر لمبتدأ محذوف . وتقديره : هذه براءة . وقيل : براءة مرفوع على أنه مبتدأ وخبره قوله : { إلى الذين عهدتم } {[1709]} والبراءة تعني انقطاع العصمة . يقال : برئت من فلان أبرأ براءة ؛ أي انقطعت بيننا العصمة .

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا بالأراجيف ، جعل المشركون ينقضون العهد ، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم العهد .

وإذا قل : كيف يجوز للنبي أن ينقض العهد ؟ فإنه يجاب عن ذلك بأنه يجوز له نقض العهد مع المشركين على ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : أن تظهر منهم الخيانة فيخشى معها غدرهم وضررهم فينبذ لهم العهد حتى يستوي المؤمنون والكافرون مع معرفة نقض العهد . وهو ما بيناه سابقا في النبذ على سواء عند الخوف من خيانة العدو .

الوجه الثاني : أن يكون الإمام قد شرط لهم أو لبعضهم أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أمر الله تعالى بقطعه فلما أمر بقطعه قطعه لأجل الشرط .

الوجه الثالث : أن يكون مؤجلا إلى مدة معلومة ، فإذا قضي الأجل انقضى العهد . وفيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد{[1710]} .


[1]:مختار الصحاح للرازي ص 461.
[2]:مختار الصحاح ص 236.
[3]:مختار الصحاح ص 338.
[1708]:تفسير ابن كثير جـ 2 ص 331 وتفسير الرازي جـ 15 ص 223.
[1709]:البيان لابن الأنباري جـ 1 ص 393.
[1710]:تفسير الرازي جـ 15 ص 226.