جملة : { وهو الذي خلق السماوات } عطف على { وهو الذي إليه تحشرون } ، والقصر حقيقي إذ ليس ثم ردّ اعتقاد لأنّ المشركين يعترفون بأنّ الله هو الخالق للأشياء التي في السماء والأرض كما قدّمناه في أول السورة . فالمقصود الاستدلال بالقصر على أنَّه هو المستحقّ للعبادة لأنّ الخلائق عبيده كقوله تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون } [ النحل : 17 ] .
والباء من قوله : { بالحقّ } للملابسة ، والمجرور متعلّق ب { خلَق } أو في موضع الحال من الضمير .
والحقّ في الأصل مصدر ( حقّ ) إذا ثبت ، ثم صار اسماً للأمر الثاتب الذي لا يُنكر من إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل مثل فلان عَدْل . والحقّ ضدّ الباطل . فالباطل اسم لضدّ ما يسمَّى به الحقّ فيطلق الحقّ إطلاقاً شائعاً على الفعل أو القول الذي هو عَدل وإعطاء المستحقّ ما يستحقّه ، وهو حينئذٍ مرادف العدل ويقابله الباطل فيرادفُ الجَور والظلم ، ويطلق الحق على الفعل أو القول السديد الصالح البالغ حدّ الإتقان والصواب ، ويرادف الحكمة والحقيقة ، ويقابله الباطل فيرادف العبث واللعبَ . والحقّ في هذه الآية بالمعنى الثاني ، كما في قوله تعالى : { ما خلقناهما إلاّ بالحقّ } [ الدخان : 39 ] بعد قوله : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } [ الدخان : 38 ] وكقوله : { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً } [ آل عمران : 191 ] . فالله تعالى أخرج السماوات والأرض وما فيهنّ من العَدم إلى الوجود لِحكم عظيمة وأودع في جميع المخلوقات قُوى وخصائص تصدر بسببها الآثار المخلوقة هي لها ورتَّبها على نُظم عجيبة تحفظ أنواعها وتُبرز ما خُلقت لأجله ، وأعظمها خَلق الإنسان وخَلْق العقل فيه والعلم ، وفي هذا تمهيد لإثبات الجزاء إذ لو أهملت أعمال المكلّفين لكان ذلك نقصاناً من الحقّ الذي خُلقت السماوات والأرض ملابِسة له ، فعُقّب بقوله : { ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ } .
وجملة : { ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ } معطوفة على التي قبلها لمناسبة ملابسة الحقّ لأفعاله تعالى فبُينت ملابسة الحقّ لأمره تعالى الدّال عليه { يقول } . والمراد ب { يومَ يقول كن } يوم البعث ، لقوله بعده : { يوم يُنفخ في الصور } .
وقد أشكل نظم قوله : { ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ } ، وذهب فيه المفسّرون طرائق . والوجه أنّ قوله { ويوم يقول كن فيكون } ظرف وقع خبره مقدّماً للاهتمام به ، والمبتدأ هو { قوله } ويكون { الحق } صفة للمتبدأ . وأصل التركيب : وقوله الحقّ يومَ يقول : كن فيكون . ونكتة الاهتمام بتقديم الظرف الردّ على المشركين المنكرين وقوع هذا التكوين بعد العدم .
ووصف القول بأنَّه الحقّ للردّ على المشركين أيضاً . وهذا القول هو عين المقول لِفعل { يقول كن } ، وحُذف المقول له { كن } لظهوره من المقام ، أي يقول لغير الموجود الكائن : كُن . وقوله : { فيكون } اعتراض ، أي يقول لمّا أراد تكوينه ( كن ) فيوجد المقولُ له { كُن } عقِب أمر التكوين .
والمعنى أنَّه أنشأ خلق السماوات والأرض بالحقّ ، وأنّه يعيد الخلق الذي بدأه بقول حقّ ، فلا يخلو شيء من تكوينه الأول ولا من تكوينه الثاني عن الحقّ . ويتضمَّن أنّه قول مستقبل ، وهو الخلق الثاني المقابل للخلق الأول ، ولذلك أتي بكلمة { يوم } للإشارة إلى أنَّه تكوين خاصّ مقدّر له يوم معيّن .
وفي قوله : { قولُه الحقّ } صيغة قصر للمبالغة ، أي هو الحقّ الكامل لأنّ أقوال غيره وإن كان فيها كثير من الحقّ فهي معرّضة للخطأ وما كان فيها غيرَ معرض للخطأ فهو من وحي الله أو من نعمته بالعقل والإصابة ، فذلك اعتداد بأنَّه راجع إلى فضل الله . ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه : « قولك الحقّ ووعدك الحقّ » . والمراد بالقول كلّ ما يدلّ على مراد الله تعالى وقضائه في يوم الحشر ، وهو يوم يقول كن ، من أمرِ تكوين ، أو أمر ثواب ، أو عقاب ، أو خبر بما اكتسبه الناس من صالح الأعمال وأضدادها ، فكلّ ذلك من قول الله في ذلك اليوم وهو حقّ . وخصّ من بين الأقوال أمرُ التكوين لما اقتضاه التقديم من تخصيصه بالذكر كما علمت .
وللمفسّرين في إعراب هذه الآية وإقامة المعنى من ذلك مسالك أخرى غير جارية على السبل الواضحة .
وقوله { وله الملك يوم ينفخ في الصور } جملة مستقلّة وانتظامها كانتظام جملة { ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ } إلاّ أنّ في تقديم المسند إليه على المسند قصر المسند إليه على المسند ، أي المُلك مقصور على الكَون له لا لغيْره لردّ ما عسى أن يطمع فيه المشركون من مشاركة أصنامهم يومئذٍ في التصرفّ والقضاء . والمقصود من هذا الظرف تهويل ذلك اليوم .
والنفخ في الصور مَثَل ضُرب للأمر التكويني بحياة الأموات الذي يعُمّ سائر الأموات ، فيحيون به ويحضرون للحشر كما يحضر الجيش بنفخ الأبواق ودَقّ الطبول .
والصّور : البُوق . وورد في الحديث : « أن المَلَك الموكَّل بنفخ الصور هو إسرافيل ، ولا يَعلم كنه هذا النفخ إلاّ الله تعالى » ويومُ النَّفخ في الصّور هو يومَ يقُول : كن فيكون ، ولكنَّه عبَّر عنه هنا ب { يوم ينفخ في الصور } لإفادة هذا الحال العجيب ، ولأنّ اليوم لمّا جعل ظرفاً للقول عُرّفَ بالإضافة إلى جملة { يقول كن فيكون } . ولمَّا جعل اليوم ظرفاً للمُلك ناسب أن يعرّف اليوم بما هو من شعار المُلك والجند .
وقد انتصب { يوم ينفخ } على الظرفية ، والعامل فيه للاستقرار الذي في قوله { وله الملك } . ويجوز أن يجعل بدلاً من { يومَ يقول كُن فيكون } . ويجعل { وله الملك } عطفاً على { قوله الحقّ } على أنّ الجميع جملة واحدة .
وعن ابن عبّاس : الصور هنا جمع صُورة ، أي ينفخ في صُوَر الموجودات .
ولما انتهى المقصود من الإخبار عن شؤون من شأن الله تعالى أتبع بصفات تشير إلى المحاسبة على كلّ جليل ودقيق ظاهر وباطن بقوله : { عالم الغيب والشهادة } .
وجاء أسلوب الكلام على طريقة حذف المخبَر عنه في مقام تَقَدُّم صفاته . فحذْف المسند إليه في مثله تبع لطريقة الاستعمال في تعقيب الأخبار بخبر أعظم منها يجعل فيه المخبر عنه مسنداً إليه ويلتزم حذفه . وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { مقامُ إبراهيم } في سورة [ آل عمران : 97 ] ، فلذلك قال هنا عالم الغيب } فحذف المسند إليه ثم لم يحذف المسند إليه في قوله : { وهو الحَكِيم الخبير } .
والغيب : ما هو غائب . وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } في سورة [ البقرة : 3 ] ، وعند قوله { وعنده مفاتح الغيب } في هذه السورة [ 59 ] .
والشهادة : ضدّ الغيب ، وهي الأمور التي يشاهدها الناس ويتوصّلون إلى علمها يقال : شَهِد ، بمعنى حضر ، وضدّه غَاب ، ولا تخرج الموجودات عن الاتّصاف بهذين الوصفين ، فكأنَّه قيل : العالم بأحوال جميع الموجودات . والتعريف في الغيب والشهادة } للاستغراق ، أي عالم كلّ غيب وكلّ شهادة .
وقوله : { وهو الحكيم الخبير } عطف على قوله : { عالم الغيب } . وصفة { الحكيم } تجمع إتقان الصنع فتدلّ على عظم القدرة مع تعلّق العلم بالمصنوعات . وصفة { الخبير } تجمع العلم بالمعلومات ظاهرها وخفيّها . فكانت الصفتان كالفذلكة لقوله : { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحقّ } ولقوله { عالم الغيب والشهادة } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد، الداعيك إلى عبادة الأوثان: أمرنا لنسلم لربّ العالمين الذي خلق السموات بالحقّ، لا من لا ينفع ولا يضرّ ولا يسمع ولا يبصر.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "بالحَقّ"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي خلق السموات والأرض حقّا وصوابا، لا باطلاً وخطأ، كما قال تعالى ذكره: "وَما خَلَقْنا السّماءَ والأرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً "قالوا: وأدخلت فيه الباء والألف واللام، كما تفعل العرب في نظائر ذلك، فتقول: فلان يقول بالحقّ، بمعنى أنه يقول الحقّ. قالوا: ولا شيء في قوله بالحقّ غير إصابته الصواب فيه، لا أن الحقّ معنى غير القول، وإنما هو صفة للقول إذا كان بها القول كان القائل موصوفا بالقول بالحقّ وبقول الحقّ. قالوا: فكذلك خلق السموات والأرض حكمة من حكم الله، فالله موصوف بالحكمة خلقهما وخلق ما سواهما من سائر خلقه، لا أن ذلك حقّ سوى خَلْقِهِما خَلَقَهُما به.
وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السموات والأرض بكلامه وقوله لهما: "ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها". قالوا: فالحقّ في هذا الموضع معني به كلامه. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقوله: "وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقّ" الحقّ: هو قوله وكلامه.
"وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ" فإن أهل العربية اختلفوا في العامل في «يَوْمَ يَقُولُ» وفي معنى ذلك؛
فقال بعض نحويي البصرة: «اليوم» مضاف إلى «يقول كن فيكون»، قال: وهو نصب وليس له خبر ظاهر، والله أعلم، وهو على ما فسرت لك. كأنه يعني بذلك أن نصبه على: «واذكر يوم يقول كن فيكون» قال: وكذلك: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ"، قال: وقال بعضهم: "يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة". وقال بعضهم: يقول "كن فيكون"، للصّور خاصة.
فمعنى الكلام على تأويلهم: يوم يقول للصور كن فيكون قوله الحق، يوم ينفخ فيه عالم الغيب والشهادة فيكون «القول» حينئذٍ مرفوعا ب «الحقّ»، والحقّ بالقول. وقوله: "يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ صلة «الحقّ».
وقال آخرون: بل قوله: "كُنْ فَيَكُونُ" معني به كلّ ما كان الله معيده في الآخرة بعد إفنائه ومنشئه بعد إعدامه. فالكلام على مذهب هؤلاء متناه عند قوله: "كُنْ فَيَكُونُ" وقوله: "قَوْلُهُ الحَقّ" خبر مبتدأ.
وتأويله: وهو الذي خلق السموات والأرض بالحقّ، ويوم يقول للأشياء: كن فيكون، خلقهما بالحقّ بعد فنائهما. ثم ابتدأ الخبر عن قوله ووعده خلقه أنه معيدهما بعد فنائهما عن أنه حقّ، فقال: قوله هذا الحقّ الذي لا شكّ فيه، وأخبر أن له الملك يوم ينفخ في الصور، ف "يوم يُنفخ في الصور" يكون على هذا التأويل من صلة «المُلك». وقد يجوز على هذا التأويل أن يكون قوله: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ" من صلة «الحقّ».
وقال آخرون: بل معنى الكلام: ويوم يقول لما فني: «كن» "فيكون قوله الحقّ"، فجعل القول مرفوعا بقوله: "وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ"، وجعل قوله: «كن فيكون» للقول محلاّ، وقوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ من صلة «الحقّ». كأنه وجّه تأويل ذلك إلى: ويومئذ قوله الحقّ يوم يُنْفخ في الصور. وإن جعل على هذا التأويل: يوم ينفخ في الصور، بيانا عن اليوم الأوّل، كان وجها صحيحا، ولو جعل قوله: "قَوْلُهُ الحَقّ" مرفوعا بقوله: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ" وقوله: "يَوْمَ يُنْفَخُ في الصورِ" محلاّ وقوله: "وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ" من صلته كان جائزا.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه المنفرد بخلق السموات والأرض دون كلّ ما سواه، معرّفا من أشرك به من خلقه جهله في عبادة الأوثان والأصنام وخطأ ما هم عليه مقيمون من عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع ولا يقدر على اجتلاب نفع إلى نفسه ولا دفع ضرّ عنها، ومحتجّا عليهم في إنكارهم البعث بعد الممات والثواب والعقاب بقدرته على ابتداع ذلك ابتداء، وأن الذي ابتدع ذلك غير متعذّر عليه إفناؤه ثم إعادته بعد إفنائه، فقال: وهو الذي خلق أيها العادلون بربهم من لا ينفع ولا يضرّ ولا يقدر على شيء، "السمواتِ والأرضَ بالحقّ"، حجة على خلقه، ليعرفوا بها صانعها وليستدلوا بها على عظيم قدرته وسلطانه، فيخلصوا له العبادة. "وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ" يقول: ويوم يقول حين تبدّل الأرض غير الأرض والسموات كذلك: «كن فيكون»، كما شاء تعالى ذكره، فتكون الأرض غير الأرض عند قوله «كن»، فيكون متناهيا. وإذا كان كذلك معناه وجب أن يكون في الكلام محذوف يدلّ عليه الظاهر، ويكون معنى الكلام: ويوم يقول لذلك كن فيكون تبدّل غير السموات والأرض، ويدلّ على ذلك قوله: "وَهُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ بالحَقّ"، ثم ابتدأ الخبر عن القول فقال: "قَوْلُهُ الحَقّ" بمعنى: وعده هذا الذي وعد تعالى ذكره من تبديله السموات والأرض غير الأرض والسموات، الحقّ الذي لا شك فيه، "وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ" فيكون قوله: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ" من صلة «الملك»، ويكون معنى الكلام: ولله الملك يومئذ لأن النفخة الثانية في الصور حال تبديل الله السموات والأرض وغيرهما. وجائز أن يكون القول، أعني قوله: "الحَقّ" مرفوعا بقوله: "ويَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ"، ويكون قوله: "كُنْ فَيَكُونُ" محلاّ للقول مرافعا. فيكون تأويل الكلام: وهو الذي خلق السموات والأرض بالحقّ، ويوم يبدّلها غير السموات والأرض فيقول لذلك كن فيكون قوله الحقّ.
"وَلهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ" فإنه خَصّ بالخبر عن ملكه يومئذ، وإن كان المُلك له خالصا في كلّ وقت في الدنيا والآخرة لأنه عنى تعالى ذكره أنه لا منازع له فيه يومئذ ولا مدّعي له، وأنه المنفرد به دون كلّ من كان ينازعه فيه في الدنيا من الجبابرة فأذعن جميعهم يومئذ له به، وعلموا أنهم كانوا من دعواهم في الدنيا في باطل.
واختلف في معنى الصور في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان: إحداهما لفناء من كان حيّا على الأرض، والثانية لنشر كلّ ميت. واعتلوا لقولهم ذلك بقوله: "وَنُفِخَ فِي الصّورِ فصَعِقَ مَن فِي السّمَوَاتِ وَمَن فِي السّمَوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إلاّ مَن شاءَ اللّهُ ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذَا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ" وبالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذْ سئل عن الصور: «هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ». وقال آخرون: الصور في هذا الموضع: جمع صورة ينفخ فيها روحها فتحيا، كقولهم سُور لسور المدينة...
والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إنّ إسْرَافِيلَ قَدِ الْتَقَمَ الصّورَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤمَرُ فَيَنْفخُ» وأنه قال: «الصّورُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ». وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ عالِمُ الغَيْبِ وَالشّهادَةِ" يعني: أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور.
فكأن ابن عباس تأوّل في ذلك أن قوله: "عالِمُ الغَيْبِ وَالشّهادَةِ" اسم الفاعل الذي لم يسمّ في قوله: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ" وأن معنى الكلام: يوم ينفخ الله في الصور عالم الغيب والشهادة، كما تقول العرب: أُكل طعامُك عبد الله، فتظهر اسم الآكل بعد أن قد جرى الخبر بما لم يسمّ آكله. وذلك وإن كان وجها غير مدفوع، فإن أحسن من ذلك أن يكون قوله: "عالِمُ الغَيْبِ وَالشّهادَةِ" مرفوعا على أنه نعت ل"الذي" في قوله: "وَهُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ بالحَقّ". ورُوِي عنه أيضا أنه كان يقول: الصور في هذا الموضع: النفخة الأولى.
"عالِمُ الغَيْبِ والشّهادَةِ": عالم ما تعاينون أيها الناس، فتشاهدونه، وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه. "وهو الحكيم" في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم، ثم من حال العدم والفناء إلى الوجود، ثم في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثواب أو عقاب، خبير بكلّ ما يعملونه ويكسبونه من حسن وسيء، حافظ ذلك عليهم، ليجازيهم على كل ذلك. يقول تعالى ذكره: فاحذروا أيها العادلون بربكم عقابه، فإنه عليم بكلّ ما تأتون وتذرون، وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعلمون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق}: وهو يحتمل وجوها: [أحدها]: قيل: خلقهما للعاقبة لأن كل أمر لا عاقبة له هو باطل ليس بحق؛ فإنما خلق السماوات والأرض وما بينهما للعاقبة، وذلك لأمر عظيم كقوله تعالى: {ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 5 و 6]. وقيل: قوله تعالى: {بالحق} أي خلقهما ليمتحن فيهما ولمحنة سكانهما، لم يخلقهما لغير شيء. وقيل: {بالحق} أي خلقهما بالحكمة؛ من نظر فيهما وتدبر لدلالة على أن لهما خالقا ومدبرا، أو للدلالة على أن مدبرهما ومنشئهما واحد، فإذا كان كذلك فكان خلقهما {بالحق} بالحكمة والعلم. {ويوم يقول كن فيكون} [فيه وجوه: أحدها:] قد ذكرنا أن قوله: {كن} هو أوجز كلام في لسان العرب؛ يعبر به، فيفهم منه، لا أن كان من الله كاف أو نون، لكنه ذكره والله أعلم، ليعلموا أن ليس على الله في الإحياء والإنشاء بعد الموت مؤنة كما لم يكن على الخلق في التكلم ب {كن} مؤنة، ولا يصعب عليهم ذلك. فعلى ذلك ليس على الله في البعث بعد الموت مؤنة ولا صعوبة. والثاني: ذكر هذا لسرعة نفاذ البعث كقوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} أخبر أن خلقهم وبعثكم ليس إلا كخلق نفس واحدة وبعث نفس واحدة، وكقوله تعالى: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} [النحل: 77] يخبر لسعة نفاذ الساعة وبعثهم؛ وذلك أن الرجل قد يلمح البصر، وهو لا يشعر به. فعلى ذلك القيامة، قد تقوم، وهم لا يشعرون. والثالث: يذكر هذا، والله أعلم، أن البعث بعد الموت [هو إحياء]، والإحياء إعادة، وإعادة الشيء عندهم أهون من ابتداء إنشاء. وعلى ذلك يخرج قوله تعالى: {وهو أهون عليه} [الروم: 27] أي هو أهون عليه عندهم. وقوله تعالى: {قوله الحق} يحتمل {قوله الحق} أي البعث بعد الموت حق على ما أخبر، ويحتمل {قوله الحق} أي ذلك القول منه حق، يكون كما ذكر. وقوله تعالى: {وله الملك} ملك ذلك اليوم كقوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]. وكقوله تعالى: {الملك يومئذ لله} [الحج: 56] ذكر هذا، والله أعلم، لما [لا ينازعه] أحد في ملك ذلك اليوم، وقد نازعه الجبابرة في الملك في الدنيا، وإن لم يكن لهم ملك ولا ألوهية. ويحتمل قوله تعالى: {وله الملك} أي ملك جميع الملوك له في الحقيقة كقوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} [آل عمران: 26]. وقوله تعالى: {يوم ينفخ في الصور} قال بعضهم: النفخ هو الروح، والروح من الريح، والروح إنما يدخل [كقوله تعالى]: {فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12] وقال بعضهم: لا يكون هناك/152-أ/ في الحقيقة نفخ، ولكن يذكره لسرعة نفاذ الساعة؛ لأن الرجل قد يتنفس، وهو لا يشعر به، فذكر هذا لسرعة نفاذ الساعة، لأنه ليس شيء أسرع جريانا ونفاذا من الريح. وقال بعضهم: هو على حقيقة النفخ، وهو ما ذكرنا. وقوله تعالى: {عالم الغيب} أي يعلم ما يغيب الخلق بعضهم عن بعض {والشهادة} ما يشهد بعضهم بعضا. ويحتمل {عالم الغيب} أي يعلم ما يكون، إذا كان كيف كان؟ أو يعلم وقت كونه {والشهادة} ما كان، وشوهد. يخبر أنه لا يغيب عنه شيء، ولا يغرب منه {وهو الحكيم} في خلق السماوات والأرض وخلق ما فيها. {وهو الحكيم} في بعثهم. والحكيم هو واضع الشيء موضعه. {الخبير} بكل شيء.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق) أي: لإظهار الحق؛ لأنه جعل صنعه دليلا على وحدانيته.
(ويوم يقول كن فيكون) قيل: هو راجع إلى قوله: (خلق السموات) يعني: وخلق يوم يقول، فإن قيل: كيف يصح هذا التقدير، والقيامة غير مخلوقة بعد؟ قيل: هي كائنة في علم الله -تعالى- [فتكون] كالمخلوقة؛ إذ الخلق بمعنى: القضاء والتقدير، وهي مقضية مقدرة، وقيل: تقديره: واذكر يوم يقول: كن فيكون (قوله الحق).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة، وحين يقول لشيء من الأشياء {كُن} فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أي لا يكون شيئاً من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وهو الذي خلق...}، {خلق}: ابتدع وأخرج من العدم إلى الوجود، و {بالحق}، أي لم يخلقها باطلاً بغير معنى، بل لمعان مفيدة ولحقائق بينة منها ما يحسه البشر من الاستدلال بها على الصانع ونزول الأرزاق وغير ذلك، وقيل المعنى بأن حق له أن يفعل ذلك، وقيل {بالحق} معناه بكلامه في قوله للمخلوقات {كن} وفي قوله: {ائتيا طوعاً أوكرهاً}. وتحرير القول أن المخلوقات إنما إيجادها بالقدرة لا بالكلام، واقتران «كن» بحالة إيجاد المخلوق فائدته إظهار العزة والعظمة ونفوذ الأوامر وإعلان القصد، ومثال ذلك في الشاهد أن يضرب إنسان شيئاً فيكسره ويقول في حال الكسر بلسانه: انكسر فإن ذلك إنفاذ عزم وإظهار قصد، ولله المثل الأعلى، لا تشبيه ولا حرف ولا صوت ولا تغير، أمره واحد كلمح البصر فكأن معنى الآية على هذا القول وهو الذي خلق السماوات والأرض بقوله {كن} المقترنة بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه فعبر عن ذلك {بالحق}.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام، ذكر ههنا ما يدل على أنه لا معبود إلا الله وحده وهو هذه الآية، وذكر فيها أنواعا كثيرة من الدلائل. أولها: قوله {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق} أما كونه خالقا للسماوات والأرض، فقد شرحنا في قوله: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض} وأما أنه تعالى خلقهما بالحق فهو نظير لقوله تعالى في سورة آل عمران {ربنا ما خلقت هذا باطلا} وقوله: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} {ما خلقناهما إلا بالحق} وفيه قولان.
القول الأول: وهو قول أهل السنة أنه تعالى مالك لجميع المحدثات مالك لكل الكائنات وتصرف للمالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق، فكان ذلك التصرف حسنا على الإطلاق وحقا على الإطلاق.
والقول الثاني: وهو قول المعتزلة أن معنى كونه حقا أنه واقع على وفق مصالح المكلفين مطابق لمنافعهم. قال القاضي: ويدخل في هذه الآية أنه خلق المكلف أولا حتى يمكنه الانتفاع بخلق السموات والأرض، ولحكماء الإسلام في هذا الباب طريقة أخرى، وهي أنه يقال: أودع في هذه الأجرام العظيمة قوى وخواص يصدر بسببها عنها آثار وحركات مطابقة لمصالح هذا العالم ومنافعه. وثانيها: قوله: {ويوم يقول كن فيكون} في تأويل هذه الآية قولان. الأول: التقدير وهو الذي خلق السماوات والأرض وخلق يوم يقول كن فيكون، والمراد من هذا اليوم يوم القيامة، والمعنى أنه تعالى هو الخالق للدنيا ولكل ما فيها من الأفلاك والطبائع والعناصر والخالق ليوم القيامة والبعث ولرد الأرواح إلى الأجساد على سبيل كن فيكون.
والوجه الثاني: في التأويل أن نقول قوله: {الحق} مبتدأ و {يوم يقول كن فيكون} ظرف دال على الخبر، والتقدير: قوله: {الحق} واقع {يوم يقول كن فيكون} كقولك يوم الجمعة القتال، ومعناه القتال واقع يوم الجمعة. والمراد من كون قوله حقا في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يقضي إلا بالحق والصدق، لأن أقضيته منزهة عن الجور والعبث. وثالثها: قوله: {وله الملك يوم ينفخ في الصور} فقوله: {وله الملك} يفيد الحصر، والمعنى: أنه لا ملك في يوم ينفخ في الصور إلا الحق سبحانه وتعالى، فالمراد بالكلام الثاني تقريرا لحكم الحق المبرأ عن العبث والباطل، والمراد بهذا الكلام تقرير القدرة التامة الكاملة التي لا دافع لها ولا معارض.
فإن قال قائل: قول الله حق في كل وقت، وقدرته كاملة في كل وقت، فما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين؟
قلنا: لأن هذا اليوم هو اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع ولا ضر، فكان الأمر كما قال سبحانه: {والأمر يومئذ لله} فلهذا السبب حسن هذا التخصيص، ورابعها: قوله: {عالم الغيب والشهادة} تقديره، وهو عالم الغيب والشهادة.
واعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب الكامل أنه سبحانه ما ذكر أحوال البعث في القيامة إلا وقرر فيه أصلين: أحدهما: كونه قادرا على كل الممكنات، والثاني: كونه عالما بكل المعلومات لأن بتقدير أن لا يكون قادرا على كل الممكنات لم يقدر على البعث والحشر ورد الأرواح إلى الأجساد وبتقدير أن لا يكون عالما بجميع الجزئيات لم يصح ذلك أيضا منه لأنه ربما اشتبه عليه المطيع بالعاصي. والمؤمن بالكافر، والصديق بالزنديق، فلا يحصل المقصود الأصلي من البعث والقيامة. أما إذا ثبت بالدليل حصول هاتين الصفتين كما الغرض والمقصود، فقوله: {وله الملك يوم ينفخ في الصور} يدل على كمال القدرة، وقوله: {عالم الغيب والشهادة} يدل على كمال العلم فلا جرم لزم من مجموعهما أن يكون قوله حقا، وأن يكون حكمه صدقا، وأن تكون قضاياه مبرأة عن الجور والعبث والباطل.
ثم قال: {وهو الحكيم الخبير} والمراد من كونه حكيما أن يكون مصيبا في أفعاله، ومن كونه خبيرا، كونه عالما بحقائقها من غير اشتباه ومن غير التباس. والله أعلم.
المسألة الثانية: قد ذكرنا في كثير من هذا الكتاب أنه ليس المراد بقوله: {كن فيكون} خطابا وأمرا لأن ذلك الأمر إن كان للمعدوم فهو محال، وإن كان للموجود فهو أمر بأن يصير الموجود موجودا وهو محال، بل المراد منه التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وإيجاد الموجودات.
المسألة الثالثة: قوله: {يوم ينفخ في الصور} ولا شبهة أن المراد منه يوم الحشر، ولا شبهة عند أهل الإسلام أن الله سبحانه خلق قرنا ينفخ فيه ملك من الملائكة وذلك القرن يسمى بالصور على ما ذكر الله تعالى هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم ولكنهم اختلفوا في المراد بالصور في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أن المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق} أي خلقهما بالأمر الثابت المتحقق وهو آياته القائمة بالسنن المطردة، المشتملة على الحكمة البالغة، الدالة على وجوده وصفاته الكاملة، فلم يخلقهما باطلا ولا عبثا، فإذا لا يترك الناس سدى، بل يجزي كل نفس بما تسعى. {ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} أي وقوله هو الحق يوم يقول للشيء كن فيكون، وهو وقت الإيجاد والتكوين، فلا مرد لأمره التكويني ولا تخلف، فكذلك يجب الإسلام لأمره التكليفي بلا حرج في النفس ولا تكلف، لأن الأمر حق والخلق حق {ألا له الخلق والأمر}.
{وله الملك يوم ينفخ في الصور} ويبعث من في القبور، فإذا كان لغيره ملك ما في الدنيا بمقتضى سننه المقدرة، وشريعته المقررة، فلا تملك يومئذ نفس ما مهما تكن مكرمة، لنفس ما مهما تكن قريبة أو مقربة، شيئا ما من خير أو شر، أو نفع أو ضر، فكيف يدعو غيره من دونه، من هداه إلى هذه الحقائق من خلقه، فيرد على عقبيه، ويرجع إلى شر حاليه؟ والصور في اللغة القرن... وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها فجعلوا منها أبواقا ينفخون فيها فيكون لها صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع، ويعزفون به كغيره من آلات السماع... وقال بعض المفسرين إن الصور جمع صورة كبسر وبسرة وصوف وصوفة، وقيل في سور المدينة أيضا إنه جمع سورة. ونقلوا هذا التفسير عن أبي عبيدة من رواة اللغة. وقد رده جمهور المفسرين بأنه لا يظهر معناه في قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله} [الزمر: 68] وهذه هي النفخة الأولى ولا يظهر معنى لكونها في صور المخلوقات وإنما يظهر ذلك في النفخة الأخرى التي يبعث الله بها العباد وهي قوله في تتمة الآية: {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68] وبأنه مخالف لما ورد في الأخبار والآثار من تفسيره بالقرن والبوق أو بما يشبههما.
وفي بعض الآثار الإسرائيلية أنه مستقر أرواح الخلق فإذا نفخ فيه نفخة البعث تصيب النفخة تلك الأرواح فتذهب إلى أجسادها؛ بعد أن يكون الله قد أعادها كما بدأها. ورده اللغويون أيضا بأن المقيس في كلام العرب أن ما كان على وزن فعلة بضم الفاء يجمع على فعل بضم الفاء وفتح العين كغرفة وغرف وصورة وصور، وقد أجمع القراء على الواو في قوله تعالى: {وصوركم فأحسن صوركم} [غافر: 64] وأما ما جاء من جمعه بضم فسكون كبسر وصوف فهو خاص بما سبق استعمال الجمع فيه على استعمال الواحد. وروى الأزهري هذا الرد بسنده عن أبي الهيثم، ويراجع في مادتي سور وصور من لسان العرب فقد أطال الكلام في المسألة فيهما.
وأما الأخبار المرفوعة في الصور فقد أخرجها أصحاب السنن والتفسير المأثور وغيرهم بأسانيد لم يصح منها شيء على شرط الشيخين ولذلك لم يخرجا منها شيئا. وأقواها ما رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال: « هو قرن ينفخ فيه» وروي عن ابن مسعود أنه قال: الصور كهيئة القرن فيه. وورد في روايات يقوي بعضها وصحح بعضها الحاكم أن الملك الموكل بالصور مستعد للنفخ فيه ينتظر متى يؤمر، وفي بعضها أنه وكل به ملكان. وورد في وصف ملك الصور وفي صفة الصور والنفخ وتأثيره وما يتعلق به وما يكون يومئذ روايات منكرة بعضها مأخوذ من الإسرائيليات عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وبعضها ملفق من أخبار كثيرة وممزوج بالآيات الواردة في قيام الساعة كحديث أبي هريرة الطويل الذي رواه عنه الطبراني من طريق إسماعيل بن رافع قاضي المدينة، وقد ذكر منه ابن كثير ما يملأ عدة صفحات وذكر أنه غريب جدا وأن إسماعيل تفرد به وأنه اختلف عليه في إسناده على وجوه كثيرة وذكر الخلاف في توثيق إسماعيل وتضعيفه ومنه أنه نص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد وأبي حاتم ومنهم من قال إنه متروك. وسنعود إلى الكلام على الصور وحكمة النفخ فيه في تفسير سورتي الأنبياء والزمر إن أحيانا الله تعالى.
{عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير} فسر ابن عباس الغيب والشهادة هنا بالسر والعلانية. وقال الحسن: الشهادة ما قد رأيتم خلقه والغيب ما غاب عنكم مما لم تروه. وتقدم القول في علم الغيب في موضعين من تفسير هذه السورة مفصلا تفصيلا. والمعنى أن الذي خلق الخلق بالحق والذي قوله الحق في التكوين والتكليف، والذي له الملك وحده يوم ينفخ في الصور ويحشر الخلق. هو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه، وهو الخبير بدقائق الأمور وخفاياها، فلا يشذ عن علمه وحكمته شيء منها، فلا يليق بعاقل أن يدعو غيره ولو بقصد التوسل والتقريب إليه زلفى، {فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18] {بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} [الأنعام: 41] ففي هذا التذليل تقرير لمضمون الآية وفذلكة للسياق الوارد في إنكار دعاء غير الله تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق)..
وهذه حقيقة أخرى تحشد كمؤثر آخر.. فالله الذي يؤمرون بالاستسلام له هو الذي خلق السماوات والأرض -والذي يخلق يملك ويحكم ويقضي ويتصرف- ولقد خلق السماوات والأرض (بالحق). فالحق قوام هذا الخلق.. وفضلا عما يقرره هذا النص من نفي الأوهام التي عرفتها الفلسفة عن هذا الكون -وبخاصة الأفلاطونية والمثالية- من أن هذا العالم المحسوس وهم لا وجود له على الحقيقة! -فضلا على تصحيح مثل هذه التصورات، فإن النص يوحي بأن الحق أصيل في بنية هذا الكون، وفي مآلاته كذلك. فالحق الذي يلوذ به الناس يستند إلى الحق الكامن في فطرة الوجود وطبيعته، فيؤلف قوة هائلة، لا يقف لها الباطل، الذي لا جذور له في بنية الكون، وإنما هو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. وكالزبد يذهب جفاء، إذ لا أصالة له في بناء الكون.. كالحق.. وهذه حقيقة ضخمة، ومؤثر كذلك عميق..
إن المؤمن الذي يشعر أن الحق الذي معه- هو شخصيا وفي حدود ذاته -إنما يتصل بالحق الكبير في كيان هذا الوجود. [وفي الآية الأخرى: (ذلك بأن الله هو الحق)] فيتصل الحق الكبير الذي في الوجود بالحق المطلق في الله سبحانه.. إن المؤمن الذي يشعر بهذه الحقيقة على هذا النحو الهائل، لا يرى في الباطل- مهما تضخم وانتفخ وطغى وتجبر وقدر على الأذى المقدر -إلا فقاعة طارئة على هذا الوجود؛ لا جذور لها ولا مدد؛ تنفثئ من قريب، وتذهب كأن لم تكن في هذا الوجود.
كما أن غير المؤمن يرتجف حسه أمام تصور هذه الحقيقة. وقد يستسلم ويثوب! (ويوم يقول: كن فيكون)..
فهو السلطان القادر، وهي المشيئة الطليقة، في الخلق والإبداع والتغيير والتبديل.. وعرض هذه الحقيقة- فضلا على أنه من عمليات البناء للعقيدة في قلوب المؤمنين -هو كذلك مؤثر موح في نفوس الذين يدعون إلى الاستسلام لله رب العالمين الخالق بالحق.. الذي يقول: كن فيكون. (قوله الحق)..
سواء في القول الذي يكون به الخلق: (كن فيكون). أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده. أو في القول الذي يشرع به للناس حين يستسلمون. أو في القول الذي يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل. وعن الخلق والنشأة والحشر والجزاء.
قوله الحق في هذا كله.. فأولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه. ومن يتبعون قول غيره كذلك وتفسيره للوجود وتشريعه للحياة. في أي اتجاه.
(وله الملك يوم ينفخ في الصور)..
ففي هذا اليوم يوم الحشر.. يوم ينفخ في الصور [هو القرن المجوف كالبوق] وهو اليوم الذي يكون فيه البعث والنشر؛ بكيفية غيبية لا يعلمها البشر، فهي من غيب الله الذي احتفظ به. والصور كذلك غيب من ناحية ماهيته وحقيقته، ومن ناحية كيفية استجابة الموتى له، والروايات المأثورة؛ تقول: هو بوق من نور ينفخ فيه ملك، فيسمع من في القبور، حيث يهبون للنشور- وهذه هي النفخة الثانية -أما الأولى فيصعق لها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله كما جاء في آية الزمر: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض- إلا من شاء الله -ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون).. وهذه الأوصاف للصور ولآثار النفخة فيه تعطينا- عن يقين -أنه على غير ما يمكن أن يكون البشر قد عهدوه في هذه الأرض أو تصوروه.. وهو من ثم غيب من غيب الله.. نعلمه بقدر ما أعطانا الله من وصفه وأثره، ولا نتجاوز هذا القدر الذي لا أمان في تجاوزه، ولا يقين. إنما هي الظنون!
في هذا اليوم الذي ينفخ فيه في الصور يبرز- حتى للمنكرين -ويظهر- حتى للمطموسين -أن الملك لله وحده، وأنه لا سلطان إلا سلطانه، ولا إرادة إلا إرادته.. فأولى لمن يأبون الاستسلام له في الدنيا طائعين أن يستسلموا قبل أن يستسلموا لسلطانه المطلق يوم ينفخ في الصور.
الذي يعلم ذلك الغيب المحجوب، كما يعلم هذا الكون المشهود. والذي لا تخفي عليه خافية من أمر العباد، ولا يند عنه شأن من شؤونهم.. فأولى لهم أن يسلموا له ويعبدوه ويتقوه. وهكذا تذكر هذه الحقيقة لذاتها، وتتخذ مؤثرا موحيا في مواجهة المكذبين والمعارضين.
يصرف أمور الكون الذي خلقه، وأمور العباد الذين يملكهم في الدنيا والآخرة بالحكمة والخبرة.. فأولى أن يستسلموا لتوجيهه وشرعه، ويسعدوا بآثار حكمته وخبرته. ويفيئوا إلى هداه وحده. ويخرجوا من التيه، ومن الحيرة، إلى ظلال الحكمة والخبرة، وإلى كنف الهدى والبصيرة..
وهكذا تتخذ هذه الحقيقة مؤثرا موحيا للعقول والقلوب..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة: {وهو الذي خلق السماوات} عطف على {وهو الذي إليه تحشرون}، والقصر حقيقي إذ ليس ثم ردّ اعتقاد لأنّ المشركين يعترفون بأنّ الله هو الخالق للأشياء التي في السماء والأرض كما قدّمناه في أول السورة. فالمقصود الاستدلال بالقصر على أنَّه هو المستحقّ للعبادة لأنّ الخلائق عبيده كقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون} [النحل: 17].
والباء من قوله: {بالحقّ} للملابسة، والمجرور متعلّق ب {خلَق} أو في موضع الحال من الضمير.
والحقّ في الأصل مصدر (حقّ) إذا ثبت، ثم صار اسماً للأمر الثابت الذي لا يُنكر من إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل مثل فلان عَدْل. والحقّ ضدّ الباطل. فالباطل اسم لضدّ ما يسمَّى به الحقّ فيطلق الحقّ إطلاقاً شائعاً على الفعل أو القول الذي هو عَدل وإعطاء المستحقّ ما يستحقّه، وهو حينئذٍ مرادف العدل ويقابله الباطل فيرادفُ الجَور والظلم، ويطلق الحق على الفعل أو القول السديد الصالح البالغ حدّ الإتقان والصواب، ويرادف الحكمة والحقيقة، ويقابله الباطل فيرادف العبث واللعبَ. والحقّ في هذه الآية بالمعنى الثاني، كما في قوله تعالى: {ما خلقناهما إلاّ بالحقّ} [الدخان: 39] بعد قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين} [الدخان: 38] وكقوله: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً} [آل عمران: 191]. فالله تعالى أخرج السماوات والأرض وما فيهنّ من العَدم إلى الوجود لِحكم عظيمة وأودع في جميع المخلوقات قُوى وخصائص تصدر بسببها الآثار المخلوقة هي لها ورتَّبها على نُظم عجيبة تحفظ أنواعها وتُبرز ما خُلقت لأجله، وأعظمها خَلق الإنسان وخَلْق العقل فيه والعلم، وفي هذا تمهيد لإثبات الجزاء إذ لو أهملت أعمال المكلّفين لكان ذلك نقصاناً من الحقّ الذي خُلقت السماوات والأرض ملابِسة له، فعُقّب بقوله: {ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ}.
وجملة: {ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ} معطوفة على التي قبلها لمناسبة ملابسة الحقّ لأفعاله تعالى فبُينت ملابسة الحقّ لأمره تعالى الدّال عليه {يقول}. والمراد ب {يومَ يقول كن} يوم البعث، لقوله بعده: {يوم يُنفخ في الصور}.
وقد أشكل نظم قوله: {ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ}، وذهب فيه المفسّرون طرائق. والوجه أنّ قوله {ويوم يقول كن فيكون} ظرف وقع خبره مقدّماً للاهتمام به، والمبتدأ هو {قوله} ويكون {الحق} صفة للمبتدأ. وأصل التركيب: وقوله الحقّ يومَ يقول: كن فيكون. ونكتة الاهتمام بتقديم الظرف الردّ على المشركين المنكرين وقوع هذا التكوين بعد العدم.
ووصف القول بأنَّه الحقّ للردّ على المشركين أيضاً. وهذا القول هو عين المقول لِفعل {يقول كن}، وحُذف المقول له {كن} لظهوره من المقام، أي يقول لغير الموجود الكائن: كُن. وقوله: {فيكون} اعتراض، أي يقول لمّا أراد تكوينه (كن) فيوجد المقولُ له {كُن} عقِب أمر التكوين.
والمعنى أنَّه أنشأ خلق السماوات والأرض بالحقّ، وأنّه يعيد الخلق الذي بدأه بقول حقّ، فلا يخلو شيء من تكوينه الأول ولا من تكوينه الثاني عن الحقّ. ويتضمَّن أنّه قول مستقبل، وهو الخلق الثاني المقابل للخلق الأول، ولذلك أتي بكلمة {يوم} للإشارة إلى أنَّه تكوين خاصّ مقدّر له يوم معيّن.
وفي قوله: {قولُه الحقّ} صيغة قصر للمبالغة، أي هو الحقّ الكامل لأنّ أقوال غيره وإن كان فيها كثير من الحقّ فهي معرّضة للخطأ وما كان فيها غيرَ معرض للخطأ فهو من وحي الله أو من نعمته بالعقل والإصابة، فذلك اعتداد بأنَّه راجع إلى فضل الله. ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: « قولك الحقّ ووعدك الحقّ». والمراد بالقول كلّ ما يدلّ على مراد الله تعالى وقضائه في يوم الحشر، وهو يوم يقول كن، من أمرِ تكوين، أو أمر ثواب، أو عقاب، أو خبر بما اكتسبه الناس من صالح الأعمال وأضدادها، فكلّ ذلك من قول الله في ذلك اليوم وهو حقّ. وخصّ من بين الأقوال أمرُ التكوين لما اقتضاه التقديم من تخصيصه بالذكر كما علمت.
وقوله {وله الملك يوم ينفخ في الصور} جملة مستقلّة وانتظامها كانتظام جملة {ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ} إلاّ أنّ في تقديم المسند إليه على المسند قصر المسند إليه على المسند، أي المُلك مقصور على الكَون له لا لغيْره لردّ ما عسى أن يطمع فيه المشركون من مشاركة أصنامهم يومئذٍ في التصرفّ والقضاء. والمقصود من هذا الظرف تهويل ذلك اليوم.
والنفخ في الصور مَثَل ضُرب للأمر التكويني بحياة الأموات الذي يعُمّ سائر الأموات، فيحيون به ويحضرون للحشر كما يحضر الجيش بنفخ الأبواق ودَقّ الطبول.
والصّور: البُوق. وورد في الحديث: « أن المَلَك الموكَّل بنفخ الصور هو إسرافيل، ولا يَعلم كنه هذا النفخ إلاّ الله تعالى» ويومُ النَّفخ في الصّور هو يومَ يقُول: كن فيكون، ولكنَّه عبَّر عنه هنا ب {يوم ينفخ في الصور} لإفادة هذا الحال العجيب، ولأنّ اليوم لمّا جعل ظرفاً للقول عُرّفَ بالإضافة إلى جملة {يقول كن فيكون}. ولمَّا جعل اليوم ظرفاً للمُلك ناسب أن يعرّف اليوم بما هو من شعار المُلك والجند.
وقد انتصب {يوم ينفخ} على الظرفية، والعامل فيه للاستقرار الذي في قوله {وله الملك}. ويجوز أن يجعل بدلاً من {يومَ يقول كُن فيكون}. ويجعل {وله الملك} عطفاً على {قوله الحقّ} على أنّ الجميع جملة واحدة.
وعن ابن عبّاس: الصور هنا جمع صُورة، أي ينفخ في صُوَر الموجودات.
ولما انتهى المقصود من الإخبار عن شؤون من شأن الله تعالى أتبع بصفات تشير إلى المحاسبة على كلّ جليل ودقيق ظاهر وباطن بقوله: {عالم الغيب والشهادة}.
وجاء أسلوب الكلام على طريقة حذف المخبَر عنه في مقام تَقَدُّم صفاته. فحذْف المسند إليه في مثله تبع لطريقة الاستعمال في تعقيب الأخبار بخبر أعظم منها يجعل فيه المخبر عنه مسنداً إليه ويلتزم حذفه. وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {مقامُ إبراهيم} في سورة [آل عمران: 97]، فلذلك قال هنا عالم الغيب} فحذف المسند إليه ثم لم يحذف المسند إليه في قوله: {وهو الحَكِيم الخبير}.
والغيب: ما هو غائب. وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} في سورة [البقرة: 3]، وعند قوله {وعنده مفاتح الغيب} في هذه السورة [59].
والشهادة: ضدّ الغيب، وهي الأمور التي يشاهدها الناس ويتوصّلون إلى علمها يقال: شَهِد، بمعنى حضر، وضدّه غَاب، ولا تخرج الموجودات عن الاتّصاف بهذين الوصفين، فكأنَّه قيل: العالم بأحوال جميع الموجودات. والتعريف في الغيب والشهادة} للاستغراق، أي عالم كلّ غيب وكلّ شهادة.
وقوله: {وهو الحكيم الخبير} عطف على قوله: {عالم الغيب}. وصفة {الحكيم} تجمع إتقان الصنع فتدلّ على عظم القدرة مع تعلّق العلم بالمصنوعات. وصفة {الخبير} تجمع العلم بالمعلومات ظاهرها وخفيّها. فكانت الصفتان كالفذلكة لقوله: {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحقّ} ولقوله {عالم الغيب والشهادة}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} فليس فيها أيّ عبثٍ في التكوين، فكل شيء خاضعٌ لحكمة، وكل ظاهرة منطلقة من قانون.. فلا ينحرف أيّ شيءٍ فيهما عن مداره، ولا يخرج عن مواقعه، وبذلك يحقق الوجود غايته التي جعلها الله له، فلا بد من أن تخضع الأشياء كلها، بما فيها الإنسان، للحقّ. {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} في ما يمثله ذلك من خضوع الوجود لإرادته، سواءٌ في ذلك يوم التكوين، أو يوم القيامة، وهذا هو {قَوْلُهُ الْحَقُّ} لأنه يمثّل الحقيقة الكونية في ثباتها وقوّتها، والحقيقة التشريعية في حكمتها وحركتها. {وَلَهُ الْمُلْكُ} لأنه الخالق لكل شيء، ومن ذا الذي يملك الأشياء غير خالقها ومبدعها؟! فهو الذي أوجدها، وهو الذي يبعثها، وهو الذي يهيمن عليها في يوم البعث {يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ} يوم يقوم الناس لرب العالمين. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} المطّلع على كل ما أظهروه وما أضمروه، في ما يوحي به ذلك من الإحساس بخطورة المسؤولية أمام الله {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الذي أجرى الأشياء بحكمته، وعرف الأشياء بخبرته من خلال ما يعرفه من شؤون عباده.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية دليل على ما جاء في الآية السابقة، وعلى ضرورة التسليم لله وإِتّباع رسوله، لذلك تقول: (هو الذي خلق السموات والأرض بالحق). إِنّ مبدأ عالم الوجود هو وحده الجدير بالعبادة، وهو وحده الذي يجب الخضوع والتسليم له، لأنّه خلق الأشياء لمقاصد حقّة. المقصود من (الحق» في الآية هو الأهداف والنتائج والمنافع والحكم، أي أنّ كل مخلوق قد خلق لهدف وغاية ومصلحة، وهذه الآية تشبه الموضوع الذي تتناوله الآية (77) من سورة ص التي جاء فيها: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا).