التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَٰلٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَٰنٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ} (81)

عطف على أخواتها .

والقول في نظم { والله جعل لكم } كالقول في نظائره المتقدّمة .

وهذا امتنان بنعمة الإلهام إلى التوقّي من أضرار الحرّ والقُرّ في حالة الانتقال ، أعقبت به المنّة بذلك في حال الإقامة والسكنى ، وبنعمة خلق الأشياء التي يكون بها ذلك التوقّي باستعمال الموجود وصنع مايحتاج إليه الإنسان من اللباس ، إذ خلق الله الظّلال صالحة للتوقّي من حَرّ الشمس ، وخلقَ الكهوف في الجبال ليمكن اللجأ إليها ، وخلق مواد اللباس مع الإلهام إلى صناعة نسجها ، وخلق الحديد لاتّخاذ الدروع للقتال .

و ( من ) في { مما خلق } ابتدائية .

والظلال تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل } [ سورة النحل : 48 ] آنفاً ، لأن الظلال آثار حجب الأجسام ضوء الشمس من الوقوع على الأرض .

والأكنان : جمع كِنّ بكسر الكاف وهو فعل بمعنى مفعول ، أي مكنون فيه ، وهي الغيران والكهوف .

و ( مِن ) في قوله تعالى : { مما خلق } ، و { من الجبال } ، للتبعيض . كانوا يأوون إلى الكهوف في شدّة حرّ الهجير أو عند اشتداد المطر ، كما ورد في حديث الثلاثة الذين سألوا الله بأفضل أعمالهم في « صحيح البخاري » .

والسّرابيل : جمع سربال ، وهو القميص يقي الجسد حرّ الشمس ، كما يقيه البرد .

وخص الحرّ هنا لأنه أكثر أحوال بلاد المخاطبين في وقت نزولها ، على أنه لما ذكر الدفء في قوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء } [ سورة النحل : 5 ] ذكر ضدّه هنا .

والسّرابيل التي تقي البأس : هي دروع الحديد . ولها من أسماء القميص الدرع ، والسّربال ، والبدن .

والبأس : الشدّة في الحرب . وإضافته إلى الضمير على معنى التوزيع ، أي تقي بعضكم بأس بعض ، كما فسر به قوله تعالى : { ويذيق بعضكم بأس بعض } [ سورة الأنعام : 65 ] ، وقال تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } [ سورة الحديد : 25 ] ، وهو بأس السيوف ، وقوله تعالى : { وعلمناه صنعة لبوس لكم ليحصنكم من بأسكم } [ سورة الأنبياء : 80 ] .

وجملة { كذلك يتم نعمته عليكم } تذييل لما ذكر من النّعم ، والمشار إليه هو ما في النّعم المذكورة من الإتمام ، أو إلى الإتمام المأخوذ من { يتم } .

و ( لعلّ ) للرجاء ، استعملت في معنى الرّغبة ، أي رغبةً في أن تسلموا ، أي تَتّبعوا دين الإسلام الذي يدعوكم إلى ما مآله شكر نعم الله تعالى .

وتقدم تأويل معنى الرجاء في كلام الله تعالى من سورة البقرة .