اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَٰلٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَٰنٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ} (81)

قوله - تعالى- : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً } الآية ، فالإنسانُ إما أن يكون مقيماً أو مسافراً ، والمسافر إمَّا أن يكون غنيًّا يستصحب معه الخيام أو لا .

فالقسم الأول أشار إليه بقوله : { جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } ، وأشار إلى القسم الثاني بقوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً } ، وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً } ، فإن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها ، فإنَّه لابد وأن يستظلَّ إما بجدار أو شجرٍ أو بالغمامِ ؛ كما قال - سبحانه- : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام } [ الأعراف : 160 ] . قوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً } ، جمع " كِنّ " ؛ وهو ما حفظ من الرِّيحِ والمطرِ ، وهو في الجبل : الغار ، وقيل : كلُّ شيءٍ وقَى شيْئاً ، ويقال : اسْتكن وأكَنّ ، إذا صار في كنٍّ .

واعلم أن بلاد العرب شديدة الحرِّ ، وحاجتهم إلى الظلِّ ودفع الحرِّ شديدة ؛ فلهذا ذكر الله - تعالى - هذه المعاني في معرض النِّعمة العظيمة ، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال ، كما قال - تعالى- : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } ؛ لأنَّهم كانوا أصحاب وبر وشعر ، كما قال - عز وجل- : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] ، وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثَّلج . وقال : { تَقِيكُمُ الحر } ، وما يَقِي من البرد أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب حرٍّ .

ولمَّا ذكر الله - تعالى - أمر المسكن ، ذكر بعده أمر الملبُوسِ ؛ فقال - جل ذكره- : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } ، والسَّرابيل : القُمص ، واحدها سربال .

قال الزجاج - رحمه الله- : " كل ما لبسته فهو سِرْبال ، من قميصٍ أو دِرْعٍ أو جَوشنٍ أو غيره " ؛ وذلك لأن الله - تعالى - جعل السَّرابيل قسمين :

أحدهما : ما يقي الحرَّ والبرد . والثاني : ما يتقى به من البأسِ والحروب .

فإن قيل : لم ذكر الحرَّ ولم يذكر البرد ؟ .

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب ، وبلادهم حارَّة [ يابسة ]{[20012]} ، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرَّ أشدَّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد : كما قال - سبحانه وتعالى - { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } ، وسائر أنواع الثياب أشرف ، إلا أنه - تعالى - ذكر هذا النَّوع ؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر{[20013]} .

والثاني : قال المبرِّد : ذكر أحد الضِّدَّين تنبيه على الآخر ؛ كقوله : [ الطويل ]

كَأنَّ الحَصَى من خَلْفِهَا وأمَامِهَا *** إذَا حَذفَتْهُ رجْلُهَا خَذفُ أعْسَرَا{[20014]}

لمَّا ثبت في العلوم العقليَّة أن العلم بأحد الضِّدين يستلزم العلم بالضدِّ الآخر ، فإنَّ الإنسان إذا خطر بباله الحر ، خطر بباله البرد أيضاً ، وكذا القول في النُّور والظلمة ، والسَّواد والبياض .

الثالث : قال الزجاج : " وما وقَى من الحرِّ وقى من البرد ، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن الآخر " .

فإن قيل : هذا بالضدِّ أولى ؛ لأن دفع الحرِّ يكفي فيه السَّرابيل التي هي القُمص دون تكلُّف زيادة ، أما البرد فإنَّه لا يندفع إلا بزيادة تكلُّف .

فالجواب : أن القميص الواحد لمَّا كان دافعاً للحر ، كانت السَّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد .

قوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ } ، أي : مثل ذلك الإتمام السابق ، { يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } ، في المستقبل . وقرأ{[20015]} ابنُ عباس- رضي الله عنهما - : " تَتِمُّ " ، بفتح التاء الأولى ، " نِعْمَتُهُ " بالرفع على الفاعلية ، وقرأ أيضاً{[20016]} : " نِعَمَهُ " ، جمع نعمة مضافة لضمير الله - تعالى - ، وقرأ{[20017]} أيضاً : " لعلكم تَسْلَمُونَ " بفتح التاء واللام مضارع سَلِمَ من السلامة ، وهو مناسب لقوله : " تَقِيكُم بَأسكُمْ " ؛ فإنَّ المراد به الدُّروع الملبوسة في الحرب ، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله .

قوله : " فإنْ تَولَّوا " ، يجوز أن يكون ماضياً ، ويكون التفاتاً من الخطاب المتقدِّم ، وأن يكون مضارعاً ، والأصل : تتولَّوا ، فحذف نحو : " تَنزَّلُ وتَذَّكرُونَ " ولا التفات على هذا ، بل هو جارٍ على الخطاب السَّابق .

ومعنى الكلام : فإن أعرضوا ، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير ، وليس عليك إلاَّ ما فعلت من التَّبليغ التَّام .


[20012]:زيادة من: ب.
[20013]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/80) والرازي (20/76).
[20014]:تقدم.
[20015]:ينظر: البحر 5/508، والقرطبي 10/106، وفيه نسبها إلى ابن محيصن وحميد.
[20016]:ينظر: البحر 5/508، والدر المصون 4/353.
[20017]:ينظر: القرطبي 10/106 ، والبحر 5/508، والدر المصون 4/353.