فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَٰلٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَٰنٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ} (81)

{ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ( 81 ) }

ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام أو أبنية يستظل بها ؛ لفقر أو لعارض آخر ، فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك ، نبه سبحانه على ذلك فقال : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً } ، أي : أشياء تستظلون بها من شدة الحر والبرد ، كالأشياء المذكورة ، وهي ظلال الأبنية والجدران والأشجار ، والحاصل أن الظلال تعم الأشياء التي تظل ، ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى كن يأوي إليه في نزوله ، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد ، نبه سبحانه على ذلك فقال : { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } ، جمع كن : وهو ما يستكن به من المطر وشدة الحر والبرد . وفي المختار : الكن : السترة ، والجمع أكنان ، والأكنة : الأغطية ، وقال الكسائي : كن الشيء : ستره ، وبابه رد ، وفي القاموس : الكن بالكسر : وقاء كل شيء وستره ، كالكنة والكنان كسرهما ، والكن : البيت ، جمعه أكنان وأكنة . وكنه كنا وكنونا ، وأكنه وكننه واكتنه : ستره . واستكن : استتر ، كاكتن . والكنة : جناح يخرج من حائط ، أو سقيفة فوق باب الدار ، أو ظله هنالك ، أو مخدع انتهى . وهي هنا الغيران والأسراب في الجبال ونحوه ، جعلها الله سبحانه عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها ؛ لأن الإنسان غني أو فقير ، فالغني يستصحب معه الخيام في سفره ليسكن فيها ، وإليه الإشارة في الآية المتقدمة ، والفقير يسكن في ظلال الأشجار والحيطان والكهوف ، وإلى هذه الإشارة في هذه الآية ، وكانت بلاد العرب شديدة الحرارة ، وحاجتهم إلى الظلال وما يدفع شدة الحر وقوته أكثر ؛ فلهذا السبب ذكر الله هذه المعاني في معرض الامتنان عليهم بها ، لأن النعمة عليهم فيها ظاهرة .

{ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } ، جمع سربال : وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها ، قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال . { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ، أي : تدفع عنكم ضرر الحر والبرد ، وهو ما عليه أكثر المفسرين ، من أنه من حذف المعطوف للعلم به .

قال الشهاب في الريحانة : في الآية نكتة لطيفة لم ينبهوا عليها ، وهو أنه إنما اقتصر على الحر ؛ لأنه أهم هنا ؛ لما عرف من غلبة الحر على ديار العرب ، ثم إن ما يقي الحر يحصل به برودة في الهواء في الجملة ، فوقاية الحر إنما هي لتحصيل البرد ، وهذا فيه من اللطف ما هو ألطف من النسيم ، فلله در التنزيل ، فكم فيه من أسرار لا تتناهى انتهى ، ونظيره " بيدك الخير " ، أي : والشر ؛ لأن الخير مطلوب العباد من ربهم دون الشر ؛ أو لتقدم وقاية البرد في قوله : " لكم فيها دفء . "

{ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } ، وهي الدروع والجواشن ، وسائر ما يلبس في الحرب من السلاح ، تتقون بها الطعن والضرب والرمي ، والمعنى : أنها تقيكم البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحرب . { كَذَلِكَ } ، الإتمام البالغ ، { يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } ، فإنه سبحانه قد من على عباده بصنوف النعم المذكورة هنا وبغيرها ، وهو بفضله وإحسانه سيتم نعمة الدين والدنيا . { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ، أي : إرادة أن تسلموا ، فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه إلا الإسلام والانقياد للحق .

وقرأ ابن عباس وعكرمة : من السلامة من الجراح ، وقرأ الباقون : من الإسلام . قال أبو عبيد : والاختيار قراءة العامة ؛ لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح ، وقيل : الخطاب لأهل مكة ، أي : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية ، والحمل على العموم أولى . وأفرد النعمة هنا ؛ لأن المراد بها المصدر .