التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا} (62)

جملة { قال أرأيتك } بدل اشتمال من جملة { أأسجد لمن خلقت طيناً } باعتبار ما تشتمل عليْه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله . فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله : { أرأيتك } المفيد الإنكار . وعلل الإنكار بإضمار المكر لذريته ، ولذلك فصلت جملة { قال أرأيتك } عن جملة { قال أأسجد } كما وقع في قوله تعالى : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } [ طه : 120 ] .

و{ أرأيتك } تركيب يفتتح بها الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به . ومعناه : أخبرني عما رأيت ، وهو مركب من همزة استفهام ، و ( رأى ) التي بمعنى علم وتاء المخاطب المفرد المرفوع ، ثم يزاد على ضمير الخطاب كافُ خطاب تشبه ضمير الخطاب المنصوب بحسب المخاطب واحداً أو متعدداً . يقال : أرأيتك وأرأيتكم كما تقدم في قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } في سورة [ الأنعام : 40 ] . وهذه الكاف عند البصريين تأكيد لمعنى الخطاب الذي تفيده تاء الخطاب التي في محل رفع ، وهو يشبه التوكيد اللفظي . وقال الفراء : الكاف ضمير نصب ، والتركيب : أرأيتَ نفسك . وهذا أقرب للاستعمال ، ويسوغه أن أفعال الظن والعلم قد تنصب على المفعولية ما هو ضميرُ فاعلها نحو قول طرفة :

فما لي أراني وابنَ عمي مالكاً *** مَتى أدْنُ منه ينأ عني ويبَعَد

أي أرى نفسي .

واسم الإشارة مستعمل في التحقير ، كقوله تعالى : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } [ الأنبياء : 36 ] . والمعنى أخبرني عن نيتك أهذا الذي كرمته عليّ بلا وجه .

وجملة { لئن أخرتني إلى يوم القيامة } الخ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، وهي جملة قَسَمية ، واللام موطئة للقسم المحذوف مع الشرط ، والخبرُ مستعمل في الدعاء فهو في معنى قوله : { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون } [ ص : 79 ] .

وهذا الكلام صدر من إبليس إعراباً عما في ضميره وإنما شرط التأخير إلى يوم القيامة ليعم بإغوائه جميع أجيال ذرية آدم فلا يكون جيل آمنا من إغوائه .

وصدر ذلك من إبليس عن وجدان ألقي في نفسه صادف مراد الله منه فإن الله لما خلقه قدر له أن يكون عنصر إغواء إلى يوم القيامة وأنه يُغوي كثيراً من البشر ويَسلَم منه قليل منهم .

وإنما اقتصر على إغواء ذرية آدم ولم يذكر إغواءَ آدم وهو أولى بالذكر إذ آدم هو أصل عداوة الشيطان الناشئة عن الحسد من تفضيله عليه إما لأن هذا الكلام قاله بعد أن أعوَى آدم وأخرج من الجنة فقد شفَى غليله منه وبقيت العداوة مسترسلة في ذرية آدم ، قال تعالى : { إن الشيطان لكم عدو } [ فاطر : 6 ] .

والاحتناك : وضع الراكب اللجامَ في حَنَك الفرس ليركَبه ويَسيّره ، فهو هنا تمثيل لجلب ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفَرس على حب ما يريد راكبه .