إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا} (62)

{ قَالَ } أي إبليسُ لكن لا عَقيبَ كلامِه المحكي بل بعد الإنظارِ المترتب على استنظاره المتفرِّع على الأمر بخروجه من بين الملأ الأعلى باللعن المؤبّدِ ، وإنما لم يصرّح بذلك اكتفاءً بما ذكر في مواضعَ أُخَرَ ، فإن توسيطَ ( قال ) بين كلامَيْ اللعين للإيذان بعدمِ اتصالِ الثاني بالأول وعدمِ ابتنائِه عليه بل على غيره كما في قوله تعالى : { قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون } { أرأيتك هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَىَّ } الكافُ لتأكيد الخطابِ لا محل لها من الإعراب وهذا مفعولٌ أولٌ والموصولُ صفتُه ، والثاني محذوفٌ لدِلالة الصلةِ عليه أي أخبِرني عن هذا الذي كرّمته عليّ بأن أمرْتَني بالسجود له لِمَ كَرَّمْتَه عليّ ؟ وقيل : هذا مبتدأٌ حُذف عنه حرفُ الاستفهام والموصولُ مع صلته خبرُه ومقصودُه الاستصغارُ والاستحقارُ ، أي أخبرْني أهذا مَنْ كرَّمته عليّ ؟ وقيل : معنى أرأيتَك أتأمّلت كأن المتكلّم ينبّه المخاطَب على استحضار ما يخاطبه به عَقيبه { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } حياً { إلى يَوْمِ القيامة } كلامٌ مبتدأٌ واللامُ موطِّئةٌ للقسم وجوابُه قوله : { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } أي لأستأصِلَنّهم ، من قولهم : احتنَك الجرادُ الأرضَ إذا جرَد ما عليها أكلاً ، أو لأقودنّهم حيث ما شئتُ ولأستولِينّ عليهم استيلاءً قوياً ، من قولهم : حنكْتَ الدابةَ واحتنكتَها إذا جعلتَ في حنَكها الأسفلِ حبلاً تقودُها به ، وهذا كقوله : { لأزَيّنَنَّ لَهُمْ في الأرض ولأغوينهم أَجْمَعِينَ } وإنما عَلِم تسنِّي ذلك المطلبِ له تلقّياً من جهة الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام أو استنباطاً من قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء } أو توسّماً من خَلْقه { إِلاَّ قَلِيلاً } منهم وهم المخْلَصون الذين عصمهم الله تعالى .