فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا} (62)

{ أَرَأيتَكَ } أي : أخبرني عن هذا الذي فضلته عليّ لم فضلته ؟ وقد { خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] فحذف هذا للعلم به { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } أي : لأستولينّ عليهم بالإغواء والإضلال . قال الواحدي : أصله من احتناك الجراد الزرع ، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده ، هذا هو الأصل ، ثم سمي الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكاً ؛ وقيل معناه : لأسوقنّهم حيث شئت ، وأقودنّهم حيث أردت ، من قولهم : حنكت الفرس أحنكه حنكاً : إذا جعلت في فيه الرسن ، والمعنى الأوّل أنسب بمعنى هذه الآية ، ومنه قول الشاعر :

أشكو إليك سنة قد أجحفت *** جهدا إلى جهد بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا واختلفت *** . . .

أي : استأصلت أموالنا ، واللام في { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } هي الموطئة ، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه ، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم ، وأنه يجري منهم في مجاري الدم ، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلاّ من عصم الله ، وهم المرادون بقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } وفي معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] . فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتماداً على الظن ، وقيل : إنه استنبط ذلك من قول الملائكة { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] ، وقيل : علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات ، أو ظنّ ذلك لأنه وسوس لآدم ، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزماً ، كما روي عن الحسن .

/خ65