الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا} (62)

قوله تعالى : { أَرَأَيْتَكَ } : قد ذُكِرَتْ مستوفاةً في الأنعام . وقال الزمخشري : " الكافُ ُللخطاب ، و " هذا " مفعول به ، والمعنى : أَخْبِرْني عن هذا الذي كَرَّمْتَه علي ، أي : فَضَّلْتَه لِمَ كَرَّمْتَه وأن خيرٌ منه ؟ فاختصر الكلامَ " . وهذا قريبٌ من كلام الحوفي .

وقال ابنُ عطية : " والكافُ في " أَرَأَيْتُكَ " حرفُ خطابٍ لا موضعَ لها من الإِعراب ، ومعنى " أَرَأَيْتَ " أتأمَّلْتَ ونحوه ، كأنَّ المخاطِبَ يُنَبِّه المخاطَب ليستجمعَ لما يَنُصُّ عليه [ بعدُ ] . وقال سيبويه : " وهي بمعنى أَخْبِرْني ، ومَثَّل بقوله : " أَرَأَيْتك زيداً أبو من هو ؟ " وقولُ سيبويهِ صحيحٌ ، حيث يكون بعدها استفهامٌ كمثالِه ، وأمَّا في الآية فهي كما قلتُ ، وليست التي ذكر سيبويهِ " . قلت : وهذا الذي ذكره ليس بمُسَلَّمٍ ، بل الآيةُ كمثالِه ، غايةُ ما في البابِ أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ وهو الجملةُ الاستفهاميةُ المقدَّرةُ ، لانعقادِ الكلام مِنْ مبتدأ وخبر ، لو قلت : هذا الذي كَرَّمْتَه عليَّ لِمَ كرَّمته ؟

وقال الفراء : " الكافُ في محلِّ نصب ، أي " أَرَأَيْتَ نفسَك كقولك : أَتَدَبَّرْتَ أخرَ أمرِك فإني صانعٌ فيه كذا ثم ابتدأ : هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ " .

وقال أبو البقاء : " والمفعولُ الثاني محذوفٌ ، تقديرُه : تفضيلَه أو تكريمه " . قلت . وهذا لا يجوز لأنَّ المفعول الثاني في هذا البابِ لا يكونَ إلا جملةً مشتملةً على استفهام " .

قال الشيخ : " ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ الجملة القسمية هي المفعولُ الثاني لكانَ حَسَناً " . قلت : يَرُدُّ ذلك التزامُ كونِ المفعولِ الثاني جملةً مشتملةً على استفهامٍ وقد تقرَّر جميعُ ذلك في الأنعام فعليك باعتباره هنا .

قوله : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } قرأ ابن كثير بإثباتِ ياءِ المتكلمِ وصلاً ووقفاً ، ونافع وأبو عمرو بإثباتِها وَصْلاً وحَذْفِها وقفاً ، وهذه قاعدةُ مَنْ ذُكِرَ في الياءاتِ الزائدةِ على الرسم ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ، هذا كلُّه في حرفِ هذه السورةِ ، أمَّا الذي في المنافقين في قولِه { لَوْلا أَخَّرْتَنِي } [ الآية : 10 ] فأثبتَه الكلُّ لثبوتِها في الرسمِ الكريم .

قوله : " لأحْتَنِكَنَّ " جوابُ القسمِ المُوَطَّأ له باللام . ومعنى " لأحْتَنِكَنَّ " لأَسْتَوْلِيَنَّ عليهم استيلاءَ مَنْ جَعَلَ في حَنَكِ الدابَّةِ حَبْلاً يقودُها به فلا تأبى ولا تَشْمُسُ عليه . يقال : حَنَك فلانٌ الدابةَ واحْتَنَكها ، أي : فَعَل بها ذلك ، واحْتَنَكَ الجرادُ الأرض : أكلَ نباتها قال :

نَشْكُو إليك سَنَةً قد أَجْحَفَتْ *** جَهْداً إلى جَهْدٍ بنا فأضعفَتْ

واحتنكَتْ أموالَنا وجَلَّفَتْ ***

وحكى سيبويه : " أحْنَكُ الشاتَيْن ، أي : آكَلُهما ، أي : أكثرُهما أَكْلاً .