روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا} (62)

{ قَالَ } أي إبليس ، وفي إعادة الفعل بين كلامي اللعين إيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره وقد ذكر ذلك في مواضع أخر أي قال بعد طرده من المحل الأعلى ولعنه واستنظاره وإنظاره { قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ } الكاف حرف خطاب مؤكد لمعنى التاء قبله وهو من التأكيد اللغوي فلا محل له من الأعراب ، ورأي علمية فتتعدى إلى مفعولين { وهذا } مفعولها الأول والموصول صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة الصلة عليه ، وهذا الإنشاء مجاز عن إنشاء آخر ومن هنا تسمعهم يقولون : المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته على لم كرمته على وأنا أكرم منه ، والعلاقة ما بين العلم والأخبار من السببية والمسببية واللازمية والملزومية ، وجملة لم كرمته واقعة على ما نص عليه أبو حيان موقع المفعول الثاني ، وذهب بعض النحاة إلى أن رأي بصرية فتتعدى إلى واحد واختاره الرضى ، ويجعلون الجملة الاستفهامية المذكورة مستأنفة .

وقال الفراء : الكاف ضمير في محل نصب أي أرأيت نفسك وهو كما تقول : أتدبرت آخر أمرك فإني صانع كذا ، و { هذا الذي كَرَّمْتَ * على } مبتدأ وخبر وقد حذف منه الاستفهام أي أهذا الخ ، وقال بعضهم بهذا إلا أنه جعل الكاف حرف خطاب مؤكد أي أخبرني أهذا من كرمته علي ، وقال ابن عطية : الكاف حرف كما قيل لكن معنى أرأيتك أتأملت كأن المتكلم ينبه المخاطب على استحضار ما يخاطبه به عقيبه ، وكونه بمعنى أخبرني قول سيبويه . والزجاج وتبعهما الحوفي . والزمخشري . وغيرهما ، وزعم ابن عطية أن ذلك حيث يكون استفهام ولا استفهام في الآية .

وأنت تعلم أن المقرر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر فيها استفهاماً مذكوراً أو مقدراً فمجرد عدم وجوده لا يأبى ذلك . وأياماً كان فاسم الإشارة للتحقير ، والمراد من التكريم التفضيل .

وجملة { لَئِنْ * أَخَّرْتَنِى إلى * يَوْم القيامة } استئناف وابتداء كلام واللام موطئة للقسم وجوابه { لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } .

وفي البحر لو ذهب ذاهب إلا أن هذا مفعول أول لأرأيتك بمعنى أخبرني والمفعول الثاني الجملة القسمية المذكورة لانعقادهما مبتدأ وخبراً قبل دخول أرأيتك لذهب مذهباً حسناً إذ لا يكون في الكلام على هذا إضمار وهو كما ترى ، والمراد من أخرتني أبقيتني حياً أو أخرت موتي ، ومعنى { لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } لأستولين عليهم استيلاء قوياً من قولهم : حنك الدابة واحتنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به .

وأخرج هذا ابن جرير . وغيره عن ابن عباس وإليه ذهب الفراء أو لأستأصلنهم وأهلكنهم بالأغواء من قولهم : احتنك الجراد الآرض إذا أهلك نباتها وجرد ما عليها واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله ، وعلى ذلك قوله :

نشكو إليك سنة قد أجحفت . . . جهداً إلى جهدبنا فاضعفت واحتنكت أموالنا وأجلفت

وكأنه مأخوذ من الحنك وهو باطن أعلى الفم من داخل المنقار فهو اشتقاق من اسم عين ، واختار هذا الطبري . والجبائي . وجماعة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال يقول لأضلنهم وهو بيان لخلاصة المعنى ، وهذا كقول اللعين { لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الآرض وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] . { إِلاَّ قَلِيلاً } منهم وهو العباد المخلصون الذين جاء استثناؤهم في آية أخرى جعلنا الله تعالى وإياكم منهم . وعلم اللعين تسنى هذا المطلب له حتى ذكره مؤكداً إما بواسطة التلقي من الملائكة سماعاً وقد أخبرهم الله تعالى به أو رأوه في اللوح المحفوظ أو بواسطة استنباطه من قولهم { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء } [ البقرة : 30 ] مع تقرير الله تعالى له أو بالفراسة لما رأى فيه من قوة الوهم والشهوة والغضب المقتضية لذلك ، ولا يبعد أن يكون استثناء القليل بالفراسة أيضاً وكأنه لما رأى أن المانع من الاستيلاء في القليل مشتركاف بينه وبين آدم عليه السلام ذكره من أول الأمر ، وعن الحسن انه ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم وغره حتى كان ما كان فقاس الفرع على الأصل وهو مشكل لأن هذا القول كان قبل الوسوسة التي كان بسببها ما كان ، ومن زعم أنه كان هناك وسوستان فعليه البيان ولا يأتي به حتى يؤب القارظان أو يسجد لآدم عليه السلام الشيطان .