التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

{ ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما }

معنى قوله تعالى : { ففهمناها سليمان } أنه ألهمهُ وجهاً آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام ، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق . وذلك أنه أرفقُ بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح ، والمرجحات لا تنحصر ، وقد لا تبدو للمجتهد ، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به ، وليتعزى على مَن فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان . وحسبك أنّه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير ، وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة .

وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد ، وفي العمل بالراجح ، وفي مراتب الترجيح ، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المُعارض لقوله تعالى : { وكلاً آتينا حكماً وعلماً } في معرض الثناء عليهما .

وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلاً في رجوع الحاكم عن حكمه ، كما قال ابن عطية وابن العربي ؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنّة الصحيحة ، فلا ينبغي أن يكون تأصيلاً وأن ما حَاولاه من ذلك غفلة .

وإضافة ( حكم ) إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين .

وتأنيث الضمير في قوله { ففهمناها ، } ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ ، على تأويل الحكم في قوله تعالى : { لحكمهم } بمعنى الحكومة أو الخصومة .

وجملة { وكلاً آتينا حكماً وعلماً } تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داوود كان خطأ أو جوراً وإنما كان حكم سليمان أصوب .

وتقدمت ترجمة داوود عليه السلام عند قوله تعالى : { وآتينا داوود زبورا } في [ سورة النساء : 163 ] ، وقوله تعالى : { ومن ذريته داوود } في [ سورة الأنعام : 84 ] .

وتقدمت ترجمة سليمان عليه السلام عند قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } في [ سورة البقرة : 102 ] .

{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فاعلين }

هذه مزية اختصّ بها داوود وهي تسخير الجبال له وهو الذي بينته جملة { يُسَبّحنْ } فهي إما بيان لجملة { سخرنا } أو حال مبينة . وذكرها هنا استطراد وإدماج .

{ والطير } عطف على { الجبال } أو مفعول معه ، أي مع الطير يعني طير الجبال .

و { مع } ظرف متعلق بفعل { يسبحن ، } وقُدم على متعلّقه للاهتمام به لإظهار كرامة داوود ، فيكون المعنى : أن داوود كان إذا سبح بين الجبال سمع الجبالَ تسبّح مثل تسبيحه . وهذا معنى التأويب في قوله في الآية الأخرى : { يا جبال أوبي معه } [ سبأ : 10 ] إذ التأويب الترجيع ، مشتق من الأوب وهو الرجوع . وكذلك الطير إذا سمعت تسبيحه تغرّد تغريداً مثل تسبيحه وتلك كلها معجزة له .

ويتعين أن يكون هذا التسخير حاصلاً له بعد أن أُوتي النبوءة كما يقتضيه سياق تعداده في عداد ما أوتيه الأنبياء من دلائل الكرامة على الله ، ولا يعرف لداوود بعد أن أُوتي النبوءة مزاولة صعود الجبال ولا الرعي فيها وقد كان من قبل النبوءة راعياً . فلعل هذا التسخير كان أيام سياحته في جبل برية ( زيف ) الذي به كهف كان يأوي إليه داوود مع أصحابه الملتفّين حوله في تلك السياحة أيام خروجه فاراً من الملك شاول ( طالوت ) حين تنكر له شاول بوشاية بعض حُساد داوود ، كما حكي في الإصحاحين 23 24 من سفر صمويل الأول . وهذا سرّ التعبير ب ( مع ) متعلقةً بفعل { سخرنا } هنا . وفي آية سورة ص إشارة إلى أنه تسخير متابعة لا تسخير خدمة بخلاف قوله الآتي { ولسليمان الريح } [ الأنبياء : 81 ] إذ عدي فعل التسخير الذي نابَت عنه واو العطف بلام الملك . وكذلك جاء لفظ ( مع ) في آية [ سورة سبأ : 10 ] { يا جبال أوبي معه } وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة له كرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده .

وجملة { وكنا فاعلين } معترضة بين الإخبار عما أوتيه داوود . وفاعل هنا بمعنى قادر ، لإزالة استبعاد تسبيح الجبال والطير معه . وفي اجتلاب فعل الكون إشارة إلى أن ذلك شأن ثابت لله من قبل ، أي وكنا قادرين على ذلك .