النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وفي حكمهما قولان :

أحدهما : أنه كان متفقاً لم يختلفا فيه ، لأن الله حين أثنى عليهم دل على اتفاقهما في الصواب ويحتمل قوله تبارك وتعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا } على أنه فضيلة له على داود لأنه أوتي الحكم في صغره ، وأوتي داود الحكم في كبره ، وإن اتفقا عليه ولم يختلفا فيه ، لأن الأنبياء معصومون من الغلط والخطأ لئلا يقع الشك في أمورهم وأحكامهم ، وهذا قول شاذ من المتكلمين .

والقول الثاني : وهو قول الجمهور من العلماء والمفسرين أن حكمهما كان مختلفاً : أصاب فيه سليمان ، وأخطأ داود ، فأما حكم داود فإنه قضى لصاحب الحرث{[1976]} ، وأما حكم سليمان فإنه رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بدرّها ونسلها ، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليأخذ بعمارته ، فإذا عاد في السنة المقبلة إلى مثل حاله ردّت الغنم إلى صاحبها ، وردّ الحرث إلى صاحبه ، حكاه ابن مسعود ، ومجاهد . فرجع داود إلى قضاء سليمان فحكم به ، فقال الله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } فجعل الحق معه وفي حكمه ، ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم . لكن لا يقرون عليه وإن أقر عليه غيرهم ، ليعود الله بالحقائق لهم دون خلقه ، ولذلك تسمى بالحق وتميز به عن الخلق . واختلف القائلون بهذا في حمله على العموم في جميع الأنبياء على قولين :

أحدهما : أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم بجواز الخطأ عليهم دونه ، قاله أبو علي بن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفرق بينه وبين غيره من جميع الأنبياء ، لأنه خاتم الأنبياء فلم يكن بعده من يستدرك غلطه ، ولذلك عصمه الله منه ، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء مَنْ يستدرك غلطه .

والقول الثاني : {[1977]} أنه على العموم في جميع الأنبياء ، وأن نبينا وغيره من الأنبياء في تجويز الخطأ على سواء ، إلا أنهم لا يقرون على إمضائه ، فلم يعتبر فيه استدراك مَنْ بعدهم من الأنبياء ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سألته امرأة عن العدة ، فقال لها : " اعْتَدِّي حَيْثُ شِئْتِ{[1978]} " ثم قال : " يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ، امْكُثِي فِي بَيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ " وقال رجل : أرأيتَ إن قُتِلتُ صابراً محتسباً أيحجزني عن الجنة شيء ؟ فقال : لاَ ، ثم دعاه فقال : " إِلاَّ الدَّينُ كَمَا أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ " . ولا يوجد منه إلاّ ما جاز عليه .

ثم قال تعال : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، ولكنه أثنى على سليمان على صوابه وعذر داود باجتهاده .

فإن قيل : فكيف نقض داود حكمه باجتهاد سليمان ؟ فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : يجوز أن يكون داود ذكر حكمه على الإِطلاق وكان ذلك منه على طريق الفتيا ، فذكره لهم ليلزمهم إياه ، فلما ظهر له ما هو أقوى في الاجتهاد منه عاد إليه .

الثاني : أنه يجوز أن يكون الله أوحى بهذا الحكم إلى سليمان فلزمه ذلك ، ولأجل النص الوارد بالوحي [ رأى ] أن ينقض اجتهاده ، لأن على الحاكم أن ينقض حكمه بالاجتهاد إذا خالف نصاً .

على أن العلماء قد اختلفوا في الأنبياء ، هل يجوز لهم الاجتهاد في الأحكام ؟ فقالت طائفة : يجوز لهم الاجتهاد لأمرين :

أحدهما : أن الاجتهاد في الاجتهاد{[1979]} فضيلة ، فلم يجز أن يحرمها الأنبياء .

الثاني : أن الاجتهاد أقوى فكان أحبها ، وهم [ في ] التزام الحكم به أولى ، وهذا قول من جوز من الأنبياء وجود الغلط .

وقال الآخرون : لا يجوز للأنبياء أن يجتهدوا في الأحكام ، لأن الاجتهاد إنما يلجأ إليه الحاكم لعدم النص ، والأنبياء لا يعدمون النص لنزول الوحي عليهم ، فلم يكن لهم الاجتهاد ، وهذا قول من قال بعصمة الأنبياء من الغلط والخطأ .

فأما ما استقر عليه شرعنا فيما أفسدته البهائم من الزرع فقد روى سعيد ابن المسيب أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً وأفسدته ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أهل المواشي بحفظ مواشيهم ليلاً ، وعلى أهل الحوائط بحفظ حوائطهم نهاراً ، فصار ما أفسدته البهائم بالليل مضموناً ، وما أفسدته نهاراً غير مضمون لأن حفظها شاق على أربابها{[1980]} ، ولا يشق عليهم{[1981]} حفظها نهاراً ، فصار الحفظ في الليل واجباً على أرباب المواشي فضمنوا ما أفسدته مواشيهم ، والحفظ في النهار واجباً على أرباب الزروع ، فلم يحكم لهم - مع تقصيرهم - بضمان زروعهم ، وهذا من أصح قضاء وأعدل حكم ، رفقاً بالفريقين ، وتسهيلاً على الطائفتين ، فليس ينافي هذا ما حكم [ به ] داود وسليمان عليهما السلام من أصل الضمان ، لأنهما حكما به في رعي الليل ، وإنما{[1982]} يخالف من صفته ، فإن الزرع في شرعنا مضمون لأنهما حكما بنقصانه من زائد وناقص ، ولا تعرض للبهائم المفسدة إذا وصل الضمان إلى المستحق .

ثم قال تعالى : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه آتى كل واحد منهما من الحكم والعلم مثل ما آتى الآخر وفي المراد بالحكم والعلم وجهان محتملان :

أحدهما : أن الحكم القضاء ، والعلم الفتيا .

الثاني : أن الحكم الاجتهاد ، والعلم النص .

قوله عز وجل : { وَسَخَّرْنَا مََعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ } يحتمل وجهين :

أحدهما : ذللنا .

الثاني : ألهمنا .

{ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ } وفي تسبيحها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن سيرها معه هو تسبيحها ، قاله ابن عيسى ، والتسبيح مأخوذ من السباحة .

الثاني : أنها صلواتها معه ، قاله قتادة .

الثالث : أنه تسبيح مسموع كان يفهمه ، وهذا قول يحيى بن سلام .


[1976]:أي قضى لصاحب الحرث بأن يأخذ الغنم كما في تفسير القرطبي ولعل في هذه العبارة سقوطا
[1977]:نقل القرطبي هذه الفقرة كاملة عن الماوردي. انظر تفسير القرطبي 11/ 309
[1978]:رواه أبو داود في الطلاق وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم رووه في الطلاق.
[1979]:في الاجتهاد هكذا بالأصل، ولعل الصواب في الأحكام.
[1980]:أي على أرباب المواشي.
[1981]:أي لا يشق على أصحاب الزروع ويبدو أن في الكلام سقطا في هذه الفقرة.
[1982]:حق المستحق غير جلي.