تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

الآيتان 78 و79 : وقوله تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } الآية . قال بعض الناس : دل تخصيص سليمان بالتفهيم على أنه لم يفهم داوود ذلك . ويدل على ذلك وجوه :

أحدها : إشراكه عز وجل إياهما جميعا في الحكم والعلم وغيره حين{[12723]} قال : { إذ يحكمان في الحرث } وقال : { وكلا آتينا حكما وعلما } [ الأنبياء : 79 ] ذكر ما كانا مشتركين فيه ، وخص سليمان بالتفهيم . فدل التخصيص بالشيء على أحدهما ، والإشراك في الآخر على أنه كان مخصوصا به دون الآخر .

والثاني : أن هذه الأنباء إنما ذُكرت لنا لنستفيد بها علما لم يكن . فلو لم يكن سليمان مخصوصا بالفهم دون داود لكان يفيدنا سوى الحكم والعلم ، وكنا نعلم أنهما قد أوتيا حكما وعلما ، وكانا يحكمان بالعلم . فإذا كان كذلك فدل التخصيص بالتفهيم لأحدهما على أن الآخر لم يكن مُفَهَّمًا ذلك ، والله أعلم .

والثالث : فيه دلالة أن المجتهد إذا حكم ، وأصاب الحكم ، أنه إنما أصاب بتفهيم الله إياه وبتوفيقه حين{[12724]} أخبر أنه قد آتاهما جميعا العلم ، ثم خص سليمان بالتفهيم ، والتفهيم هو فعل الله حين{[12725]} أضاف ذلك إلى نفسه .

ثم إن كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لأصحابنا في من قتل مسلما في دار الحرب ، أسلم هنالك ، أن عليه الكفارة ، وليست عليه الدية حين{[12726]} قال : { ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } [ النساء : 92 ] ذكر في الأولين الدية والكفارة جميعا ، ثم خص الثالثة بذكر الكفارة دون الدية ، فدل التخصيص له بأحدهما على أن ليس عليه الآخر ، لأنه لو لم يكن كذلك لكان يذكر في الأول الدية والكفارة ، ولا يذكر في الآخرين ، أو لا يذكر ذلك كله في الكل . فإذا لم يفعل هكذا ، ولكنه ذكر كل الواجب في الاثنين على الإبلاغ ، وترك في الواحد أحدهما ، وذكر الآخر . فدل تخصيص الثالث بأحد الحكمين على أن ليس عليه الآخر .

ثم استدلوا بهذه الآية على جواز العمل والقضاء باجتهاد الرأي . فمنهم من استدل بإصابة المجتهد في ما يجتهد ، وإن يصب هو الحكم الذي هو حكم عند الله فيه حقيقة ، وهو قول{[12727]} من يقول : كل مجتهد مصيب في ما عليه من الاجتهاد في تلك الحادثة ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، رحمهما الله .

ومنهم من يستدل به بخطأ أحد المجتهدين وعذره في خطئه ، فيذهب إلى أن مما كلف من الحكم في ذلك واحد لا [ حكمان مختلفان ] {[12728]} فإذا كان المقصود مما كلف من الحكم فيه واحدا فلا يجوز أن يحكم اثنان في شيء واحد بحكمين مختلفين ، والمقصود فيه واحد ، فيكونان جميعا [ مصيبين حين ] {[12729]} خص أحدهما بالتفهيم بقوله : { ففهمناها سليمان } فلو كانا جميعا مصيبين كانا جميعا مفهمين .

فإذا أخبر أنه فهم سليمان ، ولم يفهم الآخر ، دل أن المصيب ، هو المفهم منهما ، وهو قول أبي حنيفة وبشر وغيرهما .

ومن استدل بإصابة ، يستدل بقوله : { وكلا آتينا حكما وعلما } فدل ذلك على أنه لم يكن عليهما غير ما فعلا ، وحكما فيه ، وإن لم يصيبا الحكم الذي هو حكم حقيقة عند الله .

ثم ذكر في الآية أنهما يحكمان الحرث ، ولم يذكر أنهما حكما بالضمان أو البراءة عن الضمان أو كيف كان حكمهما ؟ فدل ترك بيان ما حكما فيه على أن ليس علينا ذلك الحكم ؛ إذ بين لنا ما علينا العمل فيه . فدل بيان أحدهما وترك بيان الآخر على أن ليس علينا الذي ترك ذكره وبيانه .

إلا أن أهل التأويل حملوا حكمهما على الضمان والبراءة . وعلى ذلك روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( روي أن ناقة لرجل هاربة ، دخلت حائط رجل ، فأفسدت ما فيه ، فكلم رسول الله فيها ، فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ المواشي بالليل على أهلها ، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل ) [ أحمد 5/436 ] .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما أصابت الماشية بالليل فعلى أهلها ، وما أصابت بالنهار فليس على أهلها منه شيء ) [ السيوطي في الدر المنثور 5/647 ] لكن الخبر إنما جاء في المدينة . وفي المدينة إنما ترعى الماشية في السكك ، إذ ليس لها مراع .

ونحن نقول : إن من أرسل ماشيته في مكان لا مرعى لها إلا كرم إنسان حائط ، فأفسدته{[12730]} ، فإنا نوجب الضمان ضمان ما أفسدت . وهو كمن يرسل [ الماء ] {[12731]} في ملكه في مكان ، لا يقر فيه ، فتعدى إلى ملك جاره فأفسده . فعليه ضمان ما أفسده منه .

ومن الناس من يجعل الخبر منسوخا بما جاء ( جرح العجماء جبار ) [ بنحوه مسلم 1710 ] لكن الوجه فيه ما ذكرنا . وإنما يكون جرحها جبارا إذا تعدت من غير إرسال صاحبها . فأما إذا كان بصنع صاحبها فعليه /342-أ/ الضمان ، والله أعلم .

وقال القتبي : { نفشت } أي رعت ليلا . يقال : نفشت الغنم بالليل ، وهي إبل نفش وأنفاش ونفاش ، واحدها : نافش ، وسرحت ، وسربت بالنهار .

وقال أبو عوسجة : { إذ نفشت فيه غنم القوم } يقال : أنفشنا الغنم إذا أثرناها في الليل ، فرعت ، وهو النفش ، ونفشت{[12732]} أي انتشرت بغير علم أهلها ؛ نفشت تنفش نفشا ، فهي نافشة .

قال أبو عبيدة : النفش بالليل أن تدخل في زرع ، فتأكله ، أو رعت ، فتأكل .

وقوله تعالى : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } ذكر التسبيح هنا في الجبال ، ولم يذكر في الطير . ولكن ذكر في آية أخرى حين{[12733]} قال : { والطير محشورة كل له أواب } [ ص : 19 ] أي{[12734]} تسبح له .

ثم يحتمل أن يكون تسبيح الجبال هاهنا [ وتسبيح الطير ] {[12735]} تسبيح خلقة . لكنه لو كان تسبيح خلقة لكان تسبيحها مع داود وغيره سواء . وقد ذكر يسبحن مع داود ليعلم أن الله جعل لهذه الأشياء تسبيحا ، يسبحن الله ، ويذكرونه .

وكذلك ما روي في الأخبار أن الطعام سبح في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي أنه أخذ حجرا ، فسبح في يده ، وأنه أخذ كذا ، فسلم عليه ، وأمثال هذا كثير ، وذلك كله أية لرسل الله على رسالتهم .

وقوله تعالى : { وكنا فاعلين } أي كنا فاعلين ما نريد : إن أردنا أن يسبحن سبحن ، وإن أردنا ألا يسبحن لا يسبحن ، أي كنا فاعلين جميع ما نريد لسنا{[12736]} كالخلائق ، لأنهم يريدون أشياء لا تلائمهم .


[12723]:في الأصل و م:حيث.
[12724]:في الأصل و م: حيث.
[12725]:في الأصل و م:حيث.
[12726]:في الأصل و م: حيث.
[12727]:في الأصل و م:القول.
[12728]:في الأصل و م: حكمين مختلفين.
[12729]:في الأصل و م: مصيبان حيث.
[12730]:في الأصل و م: فأفسده.
[12731]:من م، ساقطة من الأصل.
[12732]:من م، في الأصل: ونفشنا.
[12733]:في الأصل و م: حيث.
[12734]:في الأصل و م:أو.
[12735]:في الأصل و م: والطير.
[12736]:في الأصل و م: ليس.