غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

51

والضمير في { ففهمناها } للحكومة أو الفتوى . ويروى أنه دخل رجلن على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث . أي زرع . وقيل كرم- والآخر صاحب غنم . فقال صاحب الحرث : إن غنم هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئاً . فقال داود : اذهب فإن الغنم لك . فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه . فقال : لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا . فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال : كيف كنت تقضي بينهما ؟ قال : أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه .

قال أبو بكر الأصم : الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول . والمشهور عن الصحابة ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله { وكنا لحكمهم } ولقوله : { ففهمناها } والفاء للتعقيب فدل على أنه فهم حكماً خلاف الأول . وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد ، فيه خلاف بين العلماء ، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلاً كالجبائي لقوله : { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] { أن أتبع إلا ما يوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] ولأن النبي قادر على تحصيل حكم الواقعة بالنص ، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر ، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقف في بعض الأحكام انتظاراً للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف ، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل أيضا وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل . وأجيب بأنه إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } [ النجم : 3-4 ] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللاً بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه . سلمنا جواز المخالفة لكنه مشروط بصدوره عن غير معصوم ، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة اجتهادية امتنع خلافهم . وكان الرسول أوكد ، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل . ومما يدل على جواز الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعاً بين النقيضين ، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين ، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح . قال الجبائي : ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء جائز لكن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار ، فكيف يجعل الغنم في مقابلة ذلك ؟ وأيضاً إن اجتهاد داود إن كان صواباً فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله { وكلا آتينا حكماً وعلماً } وأيضا لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علماً ، وأيضاً قوله { ففهمناها } يدل على أنه من الله لا من سليمان . وأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفواً عنها كما في حكم المصراة ، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب العلوم والظن في الطريق كما مر ، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله . أما الذين منعوا من الاجتهاد مطلقاً أو في هذه المسألة ، فذهبوا إلى أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان ، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ إلى غير من أوحى إليه المنسوخ . قال الفقهاء : مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث . ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبداً فأبق من يده فإنه يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد ، فإذا ظهر العبد يرد ويقال له ضمان الحيلولة . هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار ، لأن جرح العجماء جبار . إلا أن يكون معها راع . والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية ، فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار . وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدته ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها ، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل . قال بعض الأصوليين : كل مجتهد مصيب لقوله { وكلا آتينا حكماً وعلماً } وقال بعضهم : المصيب واحد لقوله { ففهمناها سليمان } ولو كان كلاهما مصيباً لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة . وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتاً في شرعنا .

ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلاً : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل : كيف سخرهن ؟ فقال : { يسبحن } { والطير } وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه ، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل : كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه . وقال الكلبي : إذا سبح داود أجابته الجبال . وقال سليمان بن حيان : كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطاً واشتياقاً . وعلى الثاني قيل : كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى ، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة ، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم ، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلاً للكلام ، ولهذا يقال : إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة . وإنما قدم التسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفاً كالأطفال والمجانين : { وكنا فاعلين } أي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم .

/خ91