الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

ثم قال تعالى : { ففهمناها سليمان } أي : ففهمنا القضية{[46165]} سليمان دون داود ، { وكلا آتينا حكما وعلما } أي : وكلهم ، يعني داود وسليمان والرسل المذكورين في هذه السورة . { آتينا حكما } يعني النبوة وعلما بأحكام الله .

قال ابن عباس : دخلت الغنم ليلا ، فأفسدت الكرم ، فاختصموا إلى داود . فقضى بالغنم لصاحب الكرم ، فمروا على سليمان ، فأخبروه فقال : كان غير هذا الحكم أرفق بالجميع . فدخل صاحب الغنم ، فأخبر داود ، فقال لسليمان : كيف الحكم عندك . فقال : يا نبي الله ، تدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، فيصيب من ألبانها وأصوافها وأولادها ، وتدفع الكرم إلى صاحب الغنم يقوم به حتى يرجع إلى حاله . فإذا رجع إلى حاله ، سلم الكرم إلى صاحبه والغنم إلى صاحبها . وكذلك قال مجاهد وشريح{[46166]} وقتادة{[46167]} وجماعة من الكوفيين يزعمون أن هذا الحكم منسوخ ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعا ليلا أو نهارا أنه لا يلزم أصحابها شيء/ .

قال : هو منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم{[46168]} .

( العجماء جبار ){[46169]} ولم يقل بهذا أحد غير أبي حنيفة{[46170]} .

وقد حكم بالضمان لما أفسدت البهائم{[46171]} بالليل{[46172]} ثلاثة من الأنبياء : داود وسليمان ومحمد صلى الله عليه وسلم . قضى النبي أن على أهل الثمار حفظها بالنهار ، وضمن أصحاب الماشية{[46173]} ما أصابت ماشيتهم{[46174]} بالليل .

وقال أبو حنيفة : لا ضمان .

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( جرح العجماء جبار ) إنما يعني به ما أصابت البهيمة فلا أرش فيه إذا{[46175]} لم يكن على صاحبها حفظها ، لأن العلماء قد أجمعوا على أن على راكب الدابة ما أصابت بيديها ، إذ عليه حفظها{[46176]} ولا خلاف فيها إلا خلاف من لا يعد خلافا . فإذا لزم ما أصابت بيديها{[46177]} الدابة فليس بجبار إلا إذا لم يكن على صاحبها حفظها وتضمين أصحاب الماشية ما أصابت بالليل . وهو قول مالك والشافعي{[46178]} .

فالذي يحكم به في مثل هذه القضية{[46179]} في الإسلام أن يقوم ما أفسدته{[46180]} الماشية من الكرم ، ويغرمه أرباب الماشية لأهل الكرم ، لأن حفظ الليل كان عليهم لازما ، فلما فرطوا ضمنوا الجناية .

ويروى أن ناقة للبراء بن عازب رعت نباتا لقوم ، فقضى رسول الله عليه السلام أن على أهل الثمار حفظها بالنهار ، وضمن أصحاب المواشي{[46181]} ما أصابت مواشيهم بالليل{[46182]} .

وخالف أبو حنيفة هذا الحكم ، وزعم أنه منسوخ بقول النبي صلى الله عليه وسلم : العجماء جبار . والرواية عند أهل الحديث : العجماء جرحها جبار . وقد أجمع أن على راكب الدابة ما أصابت بيديها{[46183]} ، فدل ذلك أن ما أصابت جبار إذا لم يكن صاحبها معها أو قائدها . فخالف أبو حنيفة في هذا داود وسليمان ومحمدا صلى الله عليه وسلم وجميع العلماء . ( وجبار ) مشتق من جبرت العظم ، إذا لامته ، وجبرت الرِّجْلَ ، إذا نعشته فكان صاحبها{[46184]} يجبر وينعش بإسقاط ما جنته{[46185]} الدابة عنه من غير أن يكون له فيه فعل .

ويجوز أن يكون من أجبرت الرجل على الشيء ، إذا قهرته عليه ، فتكون الدابة كلها مجبرة من حيث عليه{[46186]} أن لا يأخذ في الجناية بشيء .

وقد قيل : إن الذي أفسدت الماشية كان زرعا فقضى فيه{[46187]} سليمان أن يأخذ صاحب الزرع الماشية ينتفع بألبانها . وأصوافها إلى أن يأتي حول ثاني ، ويزرع له صاحب الماشية مثل زرعه . فإذا بلغ الحد الذي كان عليه وقت رعته الماشية ، دفعه إلى صاحب الزرع ، وأخذ ماشيته .

وقيل : كانا نبيين{[46188]} يحكمان في وقت بأمر الله ووحيه . فكان داود يحكم بحكم أمره الله به . فيحكم به في الزرع ، ثم نسخه الله ، فأوحي إلى سليمان نسخه فحكم به في ذلك . فكل حكم بحكم الله تعالى وأمره له . وحكم سليمان ناسخ لحكم داود بأمر الله له ووحيه إليه . ولذلك قال : وكلا آتينا حكما وعلما .

ثم قال تعالى : { وكلا آتينا حكما وعلما }[ 78 ] .

قال زيد بن أسلم{[46189]} : الحكم ، أو الحكمة العقل .

وقال مالك{[46190]} : وإنه ليقع بقلبي أن الحكمة ، الفقه بدين الله عز وجل ، ولين يدخله الله القلوب من رحمته وفضله .

ثم قال : { وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن }[ 78 ] .

أي : يسبحن معه إذا سبح .

وقال قتادة{[46191]} : ( معنى ) يسبحن هنا ، يصلين معه إذا صلى . ( والطير ) يجوز أن يدخلن في التسبيح مع الجبال ، وهو الأولى ، ويجوز أن يدخلن في التسخير لا غير .

ثم قال : { وكنا فاعلين }[ 78 ] .

أي : فاعلين بقدر ما نريد .

وقيل : المعنى : وكنا فاعلين للأنبياء مثل هذه الآيات{[46192]} .

وقيل : معناه : وكنا قضينا أن نفعل ذلك به في أم{[46193]} الكتاب .


[46165]:ز: القصة.
[46166]:هو شريح القاضي ابن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش. قال يزيد ابن هارون: كان شريح شاعرا فائقا قاضيا (ت: 79 أو 80 هـ). انظر: ترجمته في طبقات ابن سعد 6/131.
[46167]:انظر: جامع البيان 17/51 وفتح القدير 3/422.
[46168]:انظر: البخاري (مع الفتح) 2/256 ومسلم 5/127 (كتاب الحدود) وابن ماجه 2/890 (كتاب الديات) ومسند أحمد 2/239.
[46169]:ز: قتل العجماء جبار.
[46170]:انظر: قول أبي حنيفة في الناسخ والمنسوخ للنحاس: 219. وقال الجصاص (وأصحابنا – يعني الأحناف – لا يرون في ذلك ضمانا، لا ليلا ولا نهارا إذا لم يكن صاحب الغنم هو الذي أرسلها فيها). انظر أحكام القرآن للجصاص 3/223 وقد ذهب الجصاص أيضا إلى أن حكيم داود وسليمان منسوخان بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
[46171]:ز: الماشية.
[46172]:بالليل سقطت من ز.
[46173]:ز: المواشي.
[46174]:ز: مواشيهم.
[46175]:ز: إذ.
[46176]:قوله: (لأن العلماء... حفظها) ساقط من ز.
[46177]:(بيدها سقطت من ز).
[46178]:انظر: أحكام القرآن للهراس 4/276 وأحكام ابن العربي 3/1268 والشافعي هو الإمام ابن إدريس الشافعي. أحد الأئمة الأربعة (توفي بمصر سنة 204 هـ). ترجمته في: الديياج 2/156 وتهذيب التهذيب 9/25.
[46179]:ز: القصة. (تصحيف).
[46180]:ز: فسدت.
[46181]:ز: الماشية.
[46182]:انظر: ابن ماجة 2/781 (كتاب الأحكام)، ومسند أحمد 4/295 وأحكام الجصاص 3/223.
[46183]:انظر: الناسخ والمنسوخ: 220.
[46184]:ز: صاحبه.
[46185]:ز: جنت عليه.
[46186]:قوله: (الدابة... من حيث عليه) ساقط من ز.
[46187]:فيه سقطت من ز.
[46188]:نبيين سقطت من ز.
[46189]:ز: ابن زيد. (تحريف) والقول في الناسخ والمنسوخ للنحاس: 220.
[46190]:انظر: الناسخ والمنسوخ: 220.
[46191]:انظر: فتح القدير 3/422.
[46192]:ز: الآية.
[46193]:أم سقطت من ز.