محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } .

{ فَفَهَّمْنَاهَا } أي الفتوى أو الحكومة ، المفهومين من السياق { سُلَيْمَانَ } أي فكان القضاء فيها قضاءه ، لا قضاء أبيه . روي : عن ابن عباس : ( أن غنما أفسدت زرعا بالليل ، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فقال سليمان : بل تؤخذ الغنم فتدفع إلى أصحاب الزرع فيكون لهم أولادها وألبانها ومنافعها . ويبذر أصحاب الغنم لأهل الزرع مثل زرعهم فيعمروه ويصلحوه ، فإذا بلغ الزرع الذي كان عليه ، ليلة نفشت فيه الغنم ، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها ) . وكذا روي عن ابن مسعود موقوفا لا مرفوعا . والله أعلم بالحقيقة . وقوله تعالى : { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } أي وكل واحد منهما آتيناه حكمة وعلما كثيرا ، لا سليمان وحده . ففيه دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهم ، من عدم كون حكم داود عليه السلام حكما شرعيا .

الأول : استدل بالآية على أن خطأ المجتهد مغفور له ، وعكس بعضهم ، فاستدل بالآية على أن كل مجتهد مصيب .

قال : لأنها تدل بظاهرها على أنه لا حكم لله في هذه المسألة قبل الاجتهاد . وأن الحق ليس بواحد . فكذا غيرها إذ لا قائل بالفصل . إذ لو كان له فيها حكم تعين . وهذا مذهب المعتزلة ، كما بين في الأصول . ورد بأن مفهوم قوله : { ففهمناها سليمان } لتخصيصه بالفهم دون داود عليه السلام ، يدل على أنه المصيب للحق عند الله . ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى . والمستدلون يقولون : إن الله لم يخطئه ، دل على أن كلا منهما مصيب . وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داود عليه السلام ، لجواز كون كل مصيبا . ولكن هذا أرفق وذاك أوفق ، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير . فلذلك استدل بهذه الآية كل . فكما لم يعلم حكم الله فيها ، لم يعلم تعين دلالتها . كذا في ( العناية ) .

وجاء في ( فتح البيان ) ما مثاله : لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها ، بل صرح الحديث المتفق عليه في ( الصحيحين ) وغيرهما أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر . فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مخطئا . فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له ؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين . وإلا لزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين . واللازم باطل فالملزوم مثله . وأيضا يستلزم أن تكون العين هي التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين ، بالحل والحرمة ، حلالا وحراما في حكم الله سبحانه . وهذا اللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله . وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد ، له اجتهاد في تلك الحادثة ، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين . واللازم باطل فالملزوم مثله . والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة . لكن لا يصرون على الخطأ . كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان ، لما ظهر له أنه الصواب .

قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا . ولكن الله حمد هذا بصوابه ، وأثنى على هذا باجتهاده .

الثاني : دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام . وهو مذهب الجمهور . ومنعه بعضهم . ولا مستند له . لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه . ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } فعاتبه على ما وقع منه . ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه . ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ) ومثل ذلك لا يكون فيما علمه بالوحي ، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة ، وأيضا ، فالاستنباط أرفع درجات العلماء . فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل . وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب .

قال الرازي : إذا غلب على ظن نبي أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ، ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى ، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل . وعنده مقدمة يقينية ، وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب . فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون . وعند هذا ، إما أن يقدم على الفعل والترك معا ، وهو محال ، لاستحالة الجمع بين النقيضين . أو يتركهما وهو محال ، لاستحالة الخلو عن النقيضين . أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل ، أو يرجح الراجح على المرجوح ، وذلك هو العمل بالقياس – وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس . وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم السلام . انتهى .

الثالث : قال السيوطي في ( الإكليل ) : استدل بها على جواز الاجتهاد في الأحكام ووقوعه للأنبياء . وقد ذكرناه قبل . وأن المجتهد قد يخطئ ، وأنه مأجور مع الخطأ غير آثم ، لأنه تعالى أخبر بأن إدراك الحق مع سليمان ، ثم أثنى عليهما . وقد تقدم أولا . واستدل بها من قال برجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه . وفيها تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار . لأن النفش لا يكون إلا بالليل ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن شريح والزهري وقتادة . ومن عمم الضمان فسره بالرعي مطلقا . وذهب قوم منهم الحسن إلى أن صاحب الزرع تدفعه إليه الماشية ، ينتفع بدرها وصوفها حتى يعود الزرع كما كان . كما حكم به سليمان في هذه الواقعة . إذ لم يرد في شرعنا ناسخ مقطوع به عندهم . انتهى .

الرابع : روى ابن جرير عن عامر قال : جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما : عن شياه هذا قطعت غزلا لي . فقال شريح : نهارا أم ليلا ؟ فإن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه . وإن كان ليلا فقد ضمن ، ثم قرأ هذه الآية .

قال ابن كثير : وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث الليث بن سعد الزهري عن حرام بن محيصة : ( أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا . فأفسدت فيه . فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط ، حفظها بالنهار . وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها ) . وقد علل هذا الحديث . وروى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية ، لما استقضى أتاه الحسن ، فبكى . فقال : ما يبكيك ؟ قال : يا أبا سعيد ! بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار . ورجل مال به الهوى فهو في النار . ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة . فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء ، حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم . قال الله تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث . . . } الآية . فأثنى الله على سليمان ، ولم يذم داود .

ثم قال ( يعني الحسن ) : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثا : لا يشتروا به ثمنا قليلا . ولا يتبعوا فيه الهوى . ولا يخشوا فيه أحدا . ثم تلا : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقال : { فلا تخشوا الناس واخشون } وقال ؛ { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } .

ثم قال ابن كثير : وقد ثبت في ( صحيح : البخاري ) عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران . وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار .

وفي ( السنن ) : ( القضاة ثلاثة : قاض في الجنة وقاضيان في النار . رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة . ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ) .

ثم بين سبحانه ما خص كلا من داود وسليمان من كراماته ، إثر بيان كرامته العامة لهما ، بقوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } أي سخرنا الجبال والطير يقدسن الله معه ، بصوت يتمثل له أو يخلق فيها . قال ابن كثير : وذلك لطيب صوته بتلاوته كتابه ( الزبور ) وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه . وترد عليه الجبال تأويبا ، ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيب جدا ، فوقف واستمع لقراءته وقال : ( لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود . قال : يا رسول الله ! لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا ) .

وقال أبو عثمان الهندي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل أبي موسى رضي الله عنه . انتهى .

وتقديم الجبال على الطير ، لأن تسبيحها أعجب وأدل على القدرة ، وأدخل في الإعجاز . لأنها جماد . والتذييل بقوله : { وَكُنَّا فَاعِلِينَ } إشارة إلى أنه ليس ببدع في جانب القدرة الإلهية ، وإن كان عند المخاطبين عجيبا . وهذه الآية كقوله تعالى في سورة ( ص ) : { واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة ، كل له أواب } .