البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

وقيل : حكم كل واحد منهما بوحي من الله ونسخ حكم داود بحكم سليمان ، وإن معنى { ففهمناها سليمان } أي فهمناه القضاء الفاصل الناسخ الذي أراد الله أن يستقر في النازلة .

وقرأ عكرمة فأفهمناها عُدِّي بالهمزة كما عُدِّي في قراءة الجمهور بالتضعيف والضمير في { ففهمناها } للحكومة أو الفتوى ، والضمير في { لحكمهم } عائد على الحاكمين والمحكوم لهما وعليهما ، وليس المصدر هنا مضافاً لا إلى فاعل ولا مفعول ، ولا هو عامل في التقدير فلا ينحل بحرف مصدري .

والفعل به هو مثل له ذكاء ذكاء الحكماء وذهن ذهن الأذكياء وكان المعنى وكنا للحكم الذي صدر في هذه القضية { شاهدين } فالمصدر هنا لا يراد به العلاج بل يراد به وجود الحقيقة .

وقرأ { لحكمهما } ابن عباس فالضمير لداود وسليمان .

ومعنى { شاهدين } لا يخفى علينا منه شيء ولا يغيب .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه كل واحدة من الحكومتين ؟ قلت : أمّا وجه حكومة داود فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي يبيعه في ذلك أو يفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث ، ووجه حكومة سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم ، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان .

فإن قلت : فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها ؟ قلت : أبو حنيفة وأصحابه لا يرون فيه ضماناً بالليل والنهار إلاّ أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد ، والشافعي يوجب الضمان انتهى .

والظاهر أن كلاًّ من الحكمين صواب لقوله { وكلا آتينا حكماً وعلماً } .

والظاهر أن { يسبحن } جملة حالية من { الجبال } أي مسبحات .

وقيل : استئناف كأن قائلاً قال : كيف سخرهن ؟ فقال : { يسبحن } قيل : كان يمر بالجبال مسبحاً وهي تجاوبه .

وقيل : كانت تسير معه حيث سار ، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع الناس ذلك ، وكان داود وحده يسمعه قاله يحيى بن سلام .

وقيل : كل واحد .

قال قتادة : { يسبحن } يصلين .

وقيل : يسرن من السباحة .

وقال الزمخشري : كما خلقه يعني الكلام في الشجرة حين كلم موسى انتهى .

وهو قول المعتزلة ينفون صفة الكلام حقيقة عن الله تعالى .

وقيل : إسناد التسبيح إليهن مجاز لما كانت تسير بتسيير الله حملت من رآها على التسبيح فأسند إليها ، والأكثرون على تسبيحهن هو قول سبحان الله .

وانتصب { والطير } عطفاً على { الجبال } ولا يلزم من العطف دخوله في قيد التسبيح .

وقيل : هو مفعول معه أي يسبحن مع الطير .

وقرىء { والطيرُ } مرفوعاً على الابتداء والخبر محذوف أي مسخر لدلالة سخرنا عليه ، أو على الضمير المرفوع في { يسبحن } على مذهب الكوفيين وهو توجيه قراءة شاذة .

وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قدمت { الجبال } على { الطير } ؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة ، وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق انتهى .

وقوله : ناطق إن عنى به أنه ذو نفس ناطقة كما يقولون في حد الإنسان أنه حيوان ناطق فيلزم أن يكون الطير إنساناً ، وإن عنى أنه متكلم كما يتكلم الإنسان فليس بصحيح وإنما عنى به مصوّت أي له صوت ، ووصف الطير بالنطق مجاز لأنها في الحقيقة لا نطق لها .

وقوله { وكنا فاعلين } أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهنّ والطير لمن نخصه بكرامتنا