مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

ثم قال : { ففهمناها سليمان } والفاء للتعقيب فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقا على هذا التفهيم ، وذلك الحكم السابق إما أن يقال : اتفقا فيه أو اختلفا فيه ، فإن اتفقا فيه لم يبق لقوله : { ففهمناها سليمان } فائدة وإن اختلفا فيه فذلك هو المطلوب .

السؤال الثاني : سلمنا أنهما اختلفا في الحكم ولكن هل كان الحكمان صادرين عن النص أو عن الاجتهاد . الجواب : الأمران جائزان عندنا وزعم الجبائي أنهما كانا صادرين عن النص ، ثم إنه تارة يبني ذلك على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء ، وأخرى على أن الاجتهاد وإن كان جائزا منهم في الجملة ، ولكنه غير جائز في هذه المسألة .

أما المأخذ الأول : فقد تكلمنا فيه في الجملة في كتابنا المسمى بالمحصول في الأصول ولنذكر ههنا أصول الكلام من الطرفين احتج الجبائي على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء عليهم السلام بأمور : أحدها : قوله تعالى : { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي } وقوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } . وثانيها : أن الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على إدراكه يقينا فلا يجوز مصيره إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يجتهد . ثالثها : أن مخالفة الرسول توجب الكفر لقوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } ومخالفة المظنون والمجتهدات لا توجب الكفر . ورابعها : لو جاز أن يجتهد في الأحكام لكان لا يقف في شيء منها ، ولما وقف في مسألة الظهار واللعان إلى ورود الوحي دل على أن الاجتهاد غير جائز عليه . وخامسها : أن الاجتهاد إنما يجوز المصير إليه عند فقد النص ، لكن فقدان النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الاجتهاد منه . وسادسها : لو جاز الاجتهاد من الرسول لجاز أيضا من جبريل عليه السلام وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله تعالى أو من اجتهاد جبريل ؟ والجواب عن الأول : أن قوله تعالى :{ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي } لا يدل على قولكم لأنه وارد في إبدال آية بآية لأنه عقيب قوله : { قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله } ولا مدخل للاجتهاد في ذلك . وأما قوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } فبعيد لأن من يجوز له الاجتهاد يقول إن الذي اجتهد فيه هو عن وحي على الجملة وإن لم يكن كذلك على التفصيل ، وإن الآية واردة في الأداء عن الله تعالى لا في حكمه الذي يكون بالعقل . والجواب عن الثاني : أن الله تعالى إذا قال له إذا غلب على ظنك كون الحكم معللا في الأصل بكذا ، ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فههنا الحكم مقطوع به والظن غير واقع فيه بل في طريقه . والجواب عن الثالث : أنا لا نسلم أن مخالفة المجتهدات جائزة مطلقا بل جواز مخالفتها مشروط بصدورها عن غير المعصوم والدليل عليه أنه يجوز على الأمة أن يجمعوا اجتهادا ثم يمتنع مخالفتهم وحال الرسول أوكد . والجواب عن الرابع : لعله عليه السلام كان ممنوعا من الاجتهاد في بعض الأنواع أو كان مأذونا مطلقا لكنه لم يظهر له في تلك الصورة وجه الاجتهاد ، فلا جرم أنه توقف . والجواب عن الخامس : لم لا يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور فحينئذ يحصل شرط جواز الاجتهاد . والجواب عن السادس : أن هذا الاحتمال مدفوع بإجماع الأمة على خلافه فهذا هو الجواب عن شبه المنكرين والذي يدل على جواز الاجتهاد عليهم وجوه : أحدها : أنه عليه السلام إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل ، وعنده مقدمة يقينية وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون . وعند هذا ، إما أن يقدم على الفعل والترك معا وهو محال لاستحالة الجمع بين النقيضين . أو يتركهما وهو محال لاستحالة الخلو عن النقيضين ، أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل ، أو يرجح الراجح على المرجوح وذلك هو العمل بالقياس . وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم السلام . وهذا يتوجه على جواز الاجتهاد من جبريل عليه السلام . وثانيها : قوله تعالى : { فاعتبروا } أمر للكل بالاعتبار فوجب اندراج الرسول عليه السلام فيه لأنه إمام المعتبرين وأفضلهم .

وثالثها : أن الإستنباط أرفع درجات العلماء فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب . فإن قيل هذا إنما يلزم لو لم تكن درجة أعلى من الاعتبار ، وليس الأمر كذلك ، لأنه كان يستدرك الأحكام وحيا على سبيل اليقين ، فكان أرفع درجة من الاجتهاد الذي ليس قصاراه إلا الظن . قلنا : لا يمتنع أن لا يجد النص في بعض المواضع ، فلو لم يتمكن من الاجتهاد لكان أقل درجة من المجتهد الذي يمكنه أن يعرف ذلك الحكم من الاجتهاد ، وأيضا قد بينا أن الله تعالى لما أمره بالاجتهاد كان ذلك مفيدا للقطع بالحكم . ورابعها : قال عليه السلام : « العلماء ورثة الأنبياء » فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الاجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك . هذا تمام القول في هذه المسألة . وخامسها : أنه تعالى قال : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } فذاك الإذن إن كان بإذن الله تعالى استحال أن يقول : لم أذنت لهم ، وإن كان بهوى النفس فهو غير جائز ، وإن كان بالاجتهاد فهو المطلوب .

المأخذ الثاني : قال الجبائي : لو جوزنا الاجتهاد من الأنبياء عليهم السلام ففي هذه المسألة يجب أن لا يجوز لوجوه : أحدها : أن الذي وصل إلى صاحب الزرع من در الماشية ومن منافعها مجهول المقدار ، فكيف يجوز في الاجتهاد جعل أحدهما عوضا عن الآخر . وثانيها : أن اجتهاد داود عليه السلام إن كان صوابا لزم أن لا ينقض لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد . وإن كان خطأ وجب أن يبين الله تعالى توبته كسائر ما حكاه عن الأنبياء عليهم السلام ، فلما مدحهما بقوله : { وكلا آتينا حكما وعلما } دل على أنه لم يقع الخطأ من داود . وثالثها : لو حكم بالاجتهاد لكان الحاصل هناك ظنا لا علما لأن الله تعالى قال : { وكلا آتينا حكما وعلما } . ورابعها : كيف يجوز أن يكون عن اجتهاد من مع قوله : { ففهمناها سليمان } . والجواب عن الأول : أن الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجعالات وحكم المصراة . وعن الثاني : لعله كان خطأ من باب الصغائر . وعن الثالث : بينا أن من تمسك بالقياس فالظن واقع في طريق إثبات الحكم فأما الحكم فمقطوع به . وعن الرابع : أنه إذا تأمل واجتهد فأداه اجتهاده إلى ما ذكرنا كان الله تعالى فهمه من حيث بين له طريق ذلك . فهذه جملة الكلام في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان عليهما السلام في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد . وأما بيان أنه لا يمتنع أيضا أن يكون اختلافهما فيه بسبب النص فطريقه أن يقال : إن داود عليه السلام كان مأمورا من قبل الله تعالى في هذه المسألة بالحكم الذي حكم به ، ثم إنه سبحانه نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان عليه السلام خاصة وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعا فقوله : { ففهمناها سليمان } أي أوحينا إليه فإن قيل هذا باطل لوجهين : الأول : لما أنزل الله تعالى الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضا على داود لا على سليمان . الثاني : أن الله تعالى مدح كلا منهما على الفهم ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح إنما المدح الكثير على قوة الخاطر والحذاقة في الاستنباط .

المسألة الثالثة : إذا أثبتم أنه يجوز أن يكون اختلافهما لأجل النص وأن يكون لأجل الاجتهاد فأي القولين أولى . والجواب : الاجتهاد أرجح لوجوه : أحدها : أنه روى في الأخبار الكثيرة أن داود عليه السلام لم يكن قد بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أن غير ذلك أولى ، وفي بعضها أن داود عليه السلام ناشده لكي يورد ما عنده وكل ذلك لا يليق بالنص ، لأنه لو كان نصا لكان يظهره ولا يكتمه .

السؤال الرابع : بينوا أنه كيف كان طريق الاجتهاد . الجواب : أن وجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن داود عليه السلام قوم قدر الضرر بالكرم فكان مساويا لقيمة الغنم فكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع فلا جرم سلم الغنم إلى المجنى عليه كما قال أبو حنيفة رحمه الله في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وأما سليمان عليه السلام فإن اجتهاده أدى إلى أن يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد ، فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائز لأنه يقتضي الحيف والجور ، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الكرم فحكم به ، كما قال الشافعي رضي الله عنه : فيمن غصب عبدا فأبق من يده أنه يضمن القيمة لينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادا .

السؤال الخامس : على تقدير أن ثبت قطعا أن تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد ، فهل تدل هذه القصة على أن المصيب واحد أو الكل مصيبون . الجواب : أما القائلون بأن المصيب واحد ففيهم من استدل بقوله تعالى : { ففهمناها سليمان } قال ولو كان الكل مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة ، وأما القائلون بأن الكل مصيبون ففيهم من استدل بقوله : { وكلا آتينا حكما وعلما } ولو كان المصيب واحدا ومخالفه مخطئا لما صح أن يقال : { وكلا آتينا حكما وعلما } واعلم أن الإستدلالين ضعيفان . أما الأول : فلأن الله تعالى لم يقل إنه فهمه الصواب فيحتمل أنه فهمه الناسخ ولم يفهم ذلك داود عليه السلام لأنه لم يبلغه وكل واحد منهما مصيب فيما حكم به ، على أن أكثر ما في الآية أنها دالة على أن داود وسليمان عليهما السلام ما كانا مصيبين وذلك لا يوجب أن يكون الأمر كذلك في شرعنا . وأما الثاني : فلأنه تعالى لم يقل إن كلا آتيناه حكما وعلما بما حكم به ، بل يجوز أن يكون آتيناه حكما وعلما بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام ، على أنه لا يلزم من كون كل مجتهد مصيبا في شرعهم أن يكون الأمر كذلك في شرعنا .

السؤال السادس : لو وقعت هذه الواقعة في شرعنا ما حكمها ؟ الجواب : قال الحسن البصري : هذه الآية محكمة ، والقضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة ، واعلم أن كثيرا من العلماء يزعمون أنه منسوخ بالإجماع ثم اختلفوا في حكمه فقال الشافعي رحمه الله : إن كان ذلك بالنهار لا ضمان لأن لصاحب الماشية تسييب ماشيته بالنهار ، وحفظ الزرع بالنهار على صاحبه . وإن كان ليلا يلزمه الضمان لأن حفظها بالليل عليه . وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا ضمان عليه ليلا كان أو نهارا إذا لم يكن متعديا بالإرسال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « جرح العجماء جبار » واحتج الشافعي رحمه الله بما روي عن البراء بن عازب أنه قال : « كانت ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدته فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها ، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل » وهذا تمام القول في هذه الآية . ثم إن الله تعالى ذكر بعد ذلك من النعم التي خص بها داود عليه أمرين : الأول : قوله تعالى : { وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تفسير هذا التسبيح وجهان : أحدهما : أن الجبال كانت تسبح ثم ذكروا وجوها . أحدها : قال مقاتل إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه . وثانيها : قال الكلبي : إذا سبح داود أجابته الجبال . وثالثها : قال سليمان بن حيان : كان داود عليه السلام إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا . القول الثاني : وهو اختيار بعض أصحاب المعاني أنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } وتخصيص داود عليه السلام بذلك إنما كان بسبب أنه عليه السلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقينا وتعظيما ، والقول الأول أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره . وأما المعتزلة فقالوا : لو حصل الكلام من الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله تعالى فيه . والأول : محال لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة ، وما لا يكون حيا عالما قادرا يستحيل منه الفعل .

والثاني : أيضا محال لأن المتكلم عندهم من كان فاعلا للكلام لا من كان محلا للكلام ، فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله تعالى لكان المتكلم هو الله تعالى لا الجبل ، فثبت أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره فعند هذا قالوا في : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } ومثله قوله تعالى : { يا جبال أوبي معه } معناه تصرفي معه وسيري بأمره ويسبحن من السبح الذي السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ولو لم يقصد التكثير لقيل يسبحن فلما كثر قيل يسبحن معه ، أي سيرى وهو كقوله : { إن لك في النهار سبحا طويلا } أي تصرفا ومذهبا . إذا ثبت هذا فنقول : إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله تعالى وعلى سائر ما تنزه عنه واعلم أن مدار هذا القول على أن بنية الجبل لا تقبل الحياة ، وهذا ممنوع وعلى أن التكلم من فعل الله وهو أيضا ممنوع .

المسألة الثانية : أما الطير فلا امتناع في أن يصدر عنها الكلام ، ولكن أجمعت الأمة على أن المكلفين إما الجن أو الإنس أو الملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف ، بل تكون على حالة كحال الطفل في أن يؤمر وينهي وإن لم يكن مكلفا فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق ، وأيضا فيه دلالة على قدرة الله تعالى وعلى تنزهه عما لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال .

المسألة الثالثة : قال صاحب «الكشاف » : يسبحن حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلا قال : كيف سخرهن ؟ فقال : يسبحن . والطير إما معطوف على الجبال وإما مفعول معه . فإن قلت : لم قدمت الجبال على الطير ؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، لأنها جماد والطير حيوان ناطق .

أما قوله : { وكنا فاعلين } فالمعنى أنا قادرون على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم وقيل نفعل ذلك بالأنبياء عليهم السلام .