الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

الرابعة-قوله تعالى : " ففهمناها سليمان " أي فهمناه القضية والحكومة ، فكنى عنها إذ سبق ما يدل عليها . وفضل حكم سليمان حكم أبيه في أنه أحرز أن يبقي كل واحد منهما على متاعه ، وتبقى نفسه طيبة بذلك ، وذلك أن داود عليه السلام رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث . وقالت فرقة : بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث ، والحرث إلى صاحب الغنم . قال ابن عطية : فيشبه على القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت . وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث والغلة ، فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم ، وكانوا يدخلون إلى داود من باب أخر فقال : بم قضى بينكما نبي الله داود ؟ فقالا : قضى بالغنم لصاحب الحرث . فقال : لعل الحكم غير هذا انصرفا معي . فأتى أباه فقال : يا نبي الله إنك حكمت بكذا وكذا ، وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع . قال : وما هو ؟ قال : ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها ، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه ، فإذا عاد الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبلة ، رد كل واحد منهما ما له إلى صاحبه . فقال داود : وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك . وقضى بما قضى به سليمان ، قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما . قال الكلبي : قوم داود الغنم والكرم الذي أفسدته الغنم فكانت القيمتان سواء ، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم . وهكذا قال النحاس ، قال : إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث ؛ لأن ثمنها كان قريبا منه . وأما في حكم سليمان فقد قيل : كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا .

الخامسة-قوله تعالى : " وكلا آتينا حكما وعلما " تأول قوم أن داود عليه السلام لم يخطئ في هذه النازلة ، بل فيها أوتي الحكم والعلم . وحملوا قوله : " ففهمناها سليمان " على أنه فضيلة له على داود وفضيلته راجعة إلى داود ، والوالد تسره زيادة ولده عليه . وقالت فرقة : بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه النازلة ، وإنما مدحه الله بأن له حكما وعلما يرجع إليه في غير هذه النازلة . وأما في هذه فأصاب سليمان وأخطأ داود عليهما الصلاة والسلام ، ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم ، لكن لا يقرون عليه ، وإن أقر عليه غيرهم . ولما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم : إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها ، فإن كنت مصيبا فقد أخطأ أبوك ، وإن كان أبوك مصيبا فقد أخطأت أنت ، فأجابه الوليد " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نقشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين . ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " . وقال قوم : كان داود وسليمان - عليهما السلام - نبيين يقضيان بما يوحى إليهما ، فحكم داود بوحي ، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود ، وعلى هذا " ففهمناها سليمان " أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحى إلى داود ، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود ، ولهذا قال : " وكلا آتينا حكما وعلما " . هذا قول جماعة من العلماء ومنها ابن فورك . وقال الجمهور : إن حكمهما كان باجتهاد وهي :

السادسة : واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم ، وجوزه المحققون ؛ لأنه ليس فيه استحالة عقلية ؛ لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء ، كما لو قال له الله سبحانه وتعالى : إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الأمة ، فهذا غير مستحيل في العقل . فإن قيل : إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه . قلنا : إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم ، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم . والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ ، وعن الغلط ، وعن التقصير في اجتهادهم ، وغيرهم ليس كذلك . كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم . وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم ، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده يستدرك غلطه ، ولذلك عصمه الله تعالى منه ، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطة . وقد قيل : إنه على العموم في جميع الأنبياء ، وأن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطأ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه ، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء . هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سألته امرأة عن العدة فقال لها : ( اعتدي حيث شئت ) ثم قال لها : ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) . وقال له رجل : أرأيت إن قتلت صبرا محتسبا أيحجزني الجنة شيء ؟ فقال : ( لا ) ثم دعاه فقال : ( إلا الدين كذا أخبرني جبريل عليه السلام ) .

السابعة-قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت القضاة هلكوا ، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه ، وعذر داود باجتهاده . وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذ اختلفوا ، فقالت فرقة : الحق في طرف واحد عند الله ، قد نصب على ذلك أدلة ، وحمل المجتهدين على البحث عنها ، والنظر فيها ، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق ، وله أجران في الاجتهاد وأجر في الإصابة ، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور . هذا سليمان قد صادف العين المطلوبة ، وهي التي فهم . ورأت فرقة أن العالم المخطئ لا إثم في خطئه وإن كان غير معذور . وقالت فرقة : الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل{[11303]} [ بل ]{[11304]} وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور متعبد بإصابته العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط . وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم : إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين ، وكل مجتهد مصيب ، والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه ، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه ، والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض ، ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه . ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس " الموطأ " ، فإذا قال عالم في أم حلال فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله ، وكذا في العكس . قالوا : وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي أرجح فالأولى ليست بخطأ ، وعلى هذا يحملون قول عليه السلام : ( إذا اجتهد العالم فأخطأ ) أي فأخطأ الأفضل .

الثامنة-روى مسلم وغيره عن عمروه بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) هكذا لفظ الحديث في كتاب مسلم ( إذا حكم فاجتهد ) فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد ، والأمر بالعكس ، فإن الاجتهاد مقدم لي الحكم ، فلا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع . وإنما معنى هذا الحديث : إذا أراد أن يحكم ، كما قال : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ " [ النحل : 98 ] فعند ذلك أراد أن يجتهد في النازلة . ويفيد هذا صحة ما قال الأصوليون : إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرا عند وقوع النازلة ، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا ، اللهم إن يكون ذاكرا لأركان اجتهاده ، مائلا إليه ، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في أمارة أخرى .

التاسعة-إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس ، وقضاء من مضي ؛ لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط ، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطأ في الحكم ، بل يخاف عليه أعظم الوزر . يدل على ذلك حديثه الآخر ، رواه أبو داود : ( القضاة ثلاثة ) الحديث . قال ابن المنذر : إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى : " ففهمناها سليمان " الآية . قال الحسن : أثنى على سليمان ولم يذم داود .

العاشرة-ذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين ، وليس ذلك في أقاويل المختلفين ، وبه قال أكثر الفقهاء . قال : وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكا عن اختلاف الصحابة ، فقال : مخطئ ومصيب ، وليس الحق في جميع أقاويلهم . وهذا القول قيل : هو المشهور عن مالك وإليه ذهب محمد بن الحسين . واحتج من قال هذا بحديث عبد الله بن عمرو ، قالوا : وهو نص على أن في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئا ومصيبا ، قالوا : والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي إلى كون الشيء حلالا حراما ، وواجبا ندبا . واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر . قال : نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب ( ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة ، وقال الآخرون : لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت ، قال : فما عنف واحدا من الفريقين ، قالوا : فلو كان أحد الفريقين مخطئا لعينه النبي صلى الله عليه وسلم . ويمكن أن يقال : لعله إنما سكت عن تعيين المخطئين لأنه غير آثم بل مأجور ، فاستغنى عن تعيينه . والله أعلم . ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة ، وهذه النبذة التي ذكرناها كافية في معنى الآية ، والله الموفق للهداية .

الحادية عشرة-ويتعلق بالآية فصل آخر : وهو رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاده إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول ، فإن داود عليه السلام فعل ذلك . وقد اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله تعالى ، فقال عبد الملك ومطرف في " الواضحة " : ذلك له ما دام في ولايته ، فأما إن كانت ولاية أخرى فليس له ذلك ، وهو بمنزلة غيره من القضاة . وهذا هو ظاهر قول مالك رحمة الله في " المدونة " . وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس له ذلك ، وقاله ابن عبد الحكم . قالا : ويستأنف الحكم بما قوي عنده . قال سحنون : إلا أن يكون نسي الأقوى عنده في ذلك الوقت ، أو وهم فحكم بغيره فله نقضه ، وأما وإن حكم بحكم هو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوى عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل إلى نقض الأول ، قاله سحنون في كتاب ابنه . وقال أشهب في كتاب ابن المواز : إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول ، وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه .

قلت : رجوع القاضي عما حكم القاضي إذا يتبين له أن الحق في غيره ما دام في ولايته أولى . وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى . الله عنهما ، رواها الدارقطني ، وقد ذكرناها في " الأعراف " ولم يفصل ، وهي الحجة لظاهر قول مالك . ولم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى تجوزا وبخلاف أهل العلم فهو مردود ، إن كان على وجه الاجتهاد ، فأما أن يتعقب قاض حكم قاض آخر فلا يجوز ذلك له لأن فيه مضرة عظمى من جهة نقض الأحكام ، وتبديل الحلال بالحرام ، وعدم ضبط قوانين الإسلام ، ويتعرض أحد من العلماء لنقض ما رواه الآخر ، وإنما كان يحكم بما ظهر له .

الثانية عشرة-قال بعض الناس : إن داود عليه السلام لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غير . وقال آخرون لم يكن حكما وإنما كانت فتيا .

قلت : وهكذا تؤول فيما رواه أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال : بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بابنك أنت . وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى : لا - يرحمك الله - هو ابنها ، فقضى به للصغرى ، قال أبو هريرة : إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ ، ما كنا نقول إلا المدية ، أخرجه مسلم . فأما القول بأن ذلك من داود فتيا فهو ضعيف ؛ لأنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه حكم . وأما القول الآخر فيبعد ؛ لأنه تعالى قال : " إذ يحكمان في الحرث " فبين أن كل واحد منهما كان قد حكم . وكذا قول في الحديث : فقضى به للكبرى ، يدل على إنفاذ القضاء وإنجازه . ولقد أبعد من قال : إنه كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى من حيث هي كبرى ؛ لأن الكبر والصغر طرد محض عند الدعاوى كالطول والقصر والسواد والبياض وذلك لا يوجب ترجيح أحد المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لأجل ذلك . وهو مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع . والذي ينبغي أن يقال : إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها . ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه ، فيمكن أن الولد كان بيدها ، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة ، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان . وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث . وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها . لا يقال : فإن كان داود قضى بسبب شرعي فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه ، فالجواب : أن سليمان عليه السلام لم يتعرض لحكم أبيه بالنقض ، وإنما احتال حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى ، وهي أنه لما قال : هات السكين أشقه بينكما ، قالت الصغرى : لا ، فظهر له من قرينة الشفقة في الصغرى ، وعدم ذلك في الكبرى ، مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها . ولعله كان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه . وقد ترجم النسائي على هذا الحديث " حكم الحاكم بعلمه " . وترجم له أيضا " السعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين الحق " . وترجم له أيضا " نقض الحاكم لا يحكم به غيره ممن هو مثله أو أجل منه " . ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الحزم والجد في ذلك ، فقضى بالولد للصغرى ، ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين ، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره ، فإنه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين وبعدها ، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول ، لكن من باب تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب . والله أعلم . وفي هذا الحديث من الفقه أن الأنبياء سوغ لهم الحكم بالاجتهاد ، وقد ذكرناه . وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق ، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة ، وممارسة أحوال الخلق ، وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية ، وتوسمات نورية ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وفيه الحجة لمن يقول : إن الأم تستلحق ، وليس مشهور مذهب مالك ، وليس هذا موضع ذكره . وعلى الجملة فقضاء سليمان في هذه القصة{[11305]} تضمنها مدحه تعالى له بقوله : " ففهمناها سليمان " .

الثالثة عشرة- قد تقدم القول في الحرث والحكم في هذه الواقعة في شرعنا : أن على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار ، ثم الضمان في المثل بالمثليات ، وبالقيمة في ذوات القيم . والأصل في هذه المسألة في شرعنا ما حكم به نبينا صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب . رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة : أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن{[11306]} على أهلها . هكذا رواه جميع الرواة مرسلا . وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب ، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد وحرام بن سعد بن محيصة : أن ناقة ، فذكر مثله بمعناه . ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة البراء دخلت حائط قوم ، مثل حديث مالك سواء ، إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره . قال أبو عمر : لم يصنع ابن أبي ذئب شيئا ، إلا أنه أفسد إسناده . ورواه عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يتابع{[11307]} عبد الرزاق على ذلك وأنكروا عليه قوله عن أبيه . ورواه ابن جريج عن ابن شهاب قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت ، فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة ، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء . وجائز أن يكون الحديث عن ابن شهاب عن ابن محيصة ، وعن سعيد بن المسيب ، وعن أبي أمامة - والله أعلم - فحدث به عمن شاء منهم على ما حضره وكلهم ثقات . قال أبو عمر : وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة ، وحدث به الثقات ، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول ، وجرى في المدينة العمل به ، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث .

الرابعة عشرة-ذهب مالك وجمهور الأئمة إلى القول بحديث البراء ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء ، وأدخل فسادها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( جرح العجماء جبار ) فقاس جميع أعمالها على جرحها . ويقال : أنه ما تقدم أبا حنيفة أحد بهذا القول ، ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء ، وكونه ناسخا لحديث البراء ومعارضا له ، فإن النسخ شروطه معدومة ، والتعاوض إنما يصح إذا لم يمكن استعماله أحدهما إلا بنفي الآخر ، وحديث ( العجماء جرحها جبار ) عموم متفق عليه ، ثم خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو جاء عنه في حديث واحد : العجماء جرحها جبار نهارا لا ليلا وفي الزرع والحوائط والحرث ، لم يكن هذا مستحيلا من القول ، فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض ؟ ! وإنما هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الأصول .

الخامسة عشرة-إن قيل : ما الحكمة في تفريق الشارع بين الليل والنهار ، وقد قال الليث بن سعد : يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار كل ما أفسدت ، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية ؟ قلنا : الفرق بينهما واضح وذلك أن أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال مواشيهم ترعى بالنهار ، والأغلب عندهم أن من عنده زرع يتعاهده بالنهار ويحفظه عمن أراده ، فجعل حفظ ذلك بالنهار على أهل الزروع ؛ لأنه وقت التصرف في المعاش ، كما قال الله سبحانه وتعالى : " وجعلنا النهار معاشا " {[11308]} [ النبأ : 11 ] فإذا جاء الليل فقد جاء الوقت الذي يرجع كل شيء إلى موضعه وسكنه ، كما قال الله تعالى : " من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه " {[11309]} [ القصص : 72 ] وقال : " وجعل الليل سكنا " {[11310]} [ الأنعام : 96 ] ويرد أهل المواشي مواشيهم إلى مواضعهم ليحفظوها ، فإذا فرط صاحب الماشية في ردها إلى منزله ، وفرط في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل حتى أتلفت شيئا فعليه ضمان ذلك ، فجرى الحكم الأوفق الأسمح ، وكان ذلك أرفق بالفريقين ، وأسهل على الطائفتين ، وأحفظ للمالين ، وقد وضح الصبح لذي عينين ، ولكن لسليم الحاستين ، وأما قول الليث : لا يضمن أكثر من قيمة المال فقد قال أبو عمر : لا أعلم من أين قال هذا الليث بن سعد ، إلا أن يجعله قياسا على العبد الجاني لا يفتك بأكثر من قيمته ولا يلزم سيده في جنايته أكثر من قيمته ، وهذا ضعيف الوجه ، كما قال في " التمهيد " وفي " الاستذكار " فخالف الحديث في ( العجماء جرحها جبار ) وخالف ناقة البراء ، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء . قال ابن جريج : قلت لعطاء : الحرث تصيبه الماشية ليلا أو نهارا ؟ قال : يضمن صاحبها ويغرم . قلت : كان عليه حظرا أو لم يكن ؟ قال نعم ! يغرم . قلت : ما يغرم ؟ قال : قيمة ما أكل حماره ودابته وماشيته . وقال معمر عن ابن شبرمة : يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم . وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما : يضمن رب الماشية ليلا أو نهارا ، من طرق لا تصح .

السادسة عشرة-قال مالك : ويقوم الزرع الذي أفسدت المواشي بالليل على الرجاء والخوف . قال : والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس ، والمحظر عليها وغير المحظر سواء ، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغ ، وإن كان أكثر من قيمتها . قال : وإن انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم صاحبها شيئا ، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث ، ذكره عنه ابن عبد الحكم . وقال ابن القاسم : ما أفسدت الماشية بالليل فهو في مال ربها ، وإن كان أضعاف ثمنها ؛ لأن الجناية من قبله إذ لم يربطها ، وليست الماشية كالعبيد ، حكاه سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم .

السابعة عشرة- ولا يستأنى بالزرع أن ينبت أولا ينبت كما يفعل في سن الصغير . وقال عيسى عن ابن القاسم : قيمته لو حل بيعه . وقال أشهب وابن نافع في المجموعة عنه : وإن لم يبد صلاحه . ابن العربي : والأول أقوى لأنها صفته فتقوم كما يقوم كل متلف على صفته .

الثامنة عشرة- لو لم يقض للمفسد له بشيء حتى نبت وانجبر ، فإن كان فيه قبل ذلك منفعة رعي أو شيء ضمن تلك المنفعة ، وإن لم تكن فيه منفعة فلا ضمان . وقال أصبغ : يضمن ؛ لأن التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا يعتد له به .

التاسعة عشرة-وقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة ، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة ، وبساتين كذلك ، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار ، كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد تعد ؛ لأنها ولا بد تفسد . وهذا جنوب إلى قول الليث .

الموفية عشرين-قال أصبغ في المدينة : ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذواد ، فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلو أن تكون بقعة زرع ، أو بقعة سرح ، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تجتاح ، وعلى أربابها حفظها ، وما أفسدت فصاحبها ضامن ليلا أو نهارا ، وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الذي حرثه فيها حفظه ، ولا شيء على أرباب المواشي .

الحادية والعشرون-المواشي على قسمين : ضواري وحريسة وعليهما قسمها مالك . فالضواري هي المعتادة للزرع{[11311]} والثمار ، فقال مالك : تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه ، رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره . قال ابن حبيب : وإن كره ذلك ربها ، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت في إفساد الزرع : تغرب وتباع . وأما ما يستطاع الاحتراس منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه .

الثانية والعشرون-قال أصبغ : النحل والحمام والإوز والدجاج كالماشية ، لا يمنع صاحبها من اتخاذها وإن [ ضريت ]{[11312]} ، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم . قال ابن العربي : وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها من أراد أن يجد ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكن منه ، وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه . قال عليه السلام : ( لا ضرر ولا ضرار ) وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم . ابن العربي : وأرى الضمان عليهم قبل التقدم إذا كانت ضواري .

الثالثة والعشرون-ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك فاختصموا إلى شريح ، فقال الشعبي : انظروه فإنه سيسألهم ليلا وقعت فيه أو نهارا ، ففعل . ثم قال : إن كان بالليل ضمن ، وإن كان بالنهار لم يضمن ، ثم قرأ شريح " إذ نقشت فيه غنم القوم " قال : والنفش بالليل والهمل بالنهار .

قلت : ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ( العجماء جرحها جبار ) الحديث . وقال ابن شهاب : والجبار الهدر ، والعجماء البهيمة ، قال علماؤنا : ظاهر قوله : ( العجماء جرحها جبار ) أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء ، وهذا مجمع عليه . فلو كان معها قائد أو سائق أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم المتلف ، فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص وكان الحمل عمدا كان فيه القصاص ولا يختلف فيه ؛ لأن الدابة كالآلة . وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة . وفي الأموال الغرامة في مال الجاني . واختلفوا فيمن أصابته برجلها أو ذنبها ، فلم يضمن مالك والليث والأوزاعي صاحبها ، وضمنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة . واختلفوا في الضارية فجمهورهم أنها كغيرها ، ومالك وبعض أصحابه يضمنونه .

الخامسة والعشرون- روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الرجل جبار ) قال الدارقطني : لم يروه غير سفيان بن حسين ولم يتابع عليه ، وخالفه الحفاظ عن الزهري منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل وليث بن سعد ، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري فقالوا : ( العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار ) ولم يذكروا الرجل وهو الصواب . وكذلك روى أبو صالح السمان ، وعبد الرحمن الأعرج ، ومحمد بن سيرين ، ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة ، ولم يذكروا فيه ( والرجل جبار ) وهو المحفوظ عن أبي هريرة .

السادسة والعشرون-قوله : ( والبئر جبار ) قد روى موضعه ( والنار ) قال الدارقطني : حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبد الرزاق : حديث أبي هريرة ( والنار جبار ) ليس بشيء لم يكن في الكتاب باطل ليس هو بصحيح . حدثنا محمد بن مخلد حدثنا إسحاق{[11313]} بن إبراهيم بن هانئ قال سمعت أحمد بن حنبل يقول : أهل اليمن يكتبون النار النير ويكتبون البير ، يعني مثل ذلك . وإنما لقن عبد الرزاق ( النار جبار ) . وقال الرمادي : قال عبد الرزاق قال معمر لا أراه إلا وهما . قال أبو عمر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( النار جبار ) وقال يحيي بن معين : أصله البئر ولكن معمرا صحفه قال أبو عمر : لم يأت ابن معين على قوله هذا بدليل ، وليس هكذا ترد أحاديث الثقات . ذكر وكيع عن عبد العزيز بن حصين عن يحي بن يحي الغساني قال : أحرق رجل سافي قراح{[11314]} له ، فخرجت شررة من نار حتى أحرقت شيئا لجاره . قال : فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ابن حصين فكتب إلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( العجماء جبار ) وأرى أن النار جبار . وقد روي ( والسائمة جبار ) بدل العجماء فهذا ما ورد في ألفاظ هذا الحديث ولكل معنى لفظ صحيح مذكور في شرح الحديث وكتب الفقه .

قوله تعالى : " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن " قال وهب : كان داود يمر بالجبال مسبحا والجبال تجاوبه بالتسبيح ، وكذلك الطير . وقيل كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق ، ولهذا قال : " وسخرنا " أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح . وقيل : إن سيرها معه تسبيحها ، والتسبيح مأخوذ من السباحة ، دليله قوله تعالى : " يا جبال أوبي معه " {[11315]} [ سبأ : 10 ] . وقال قتادة : " يسبحن " يصلين معه إذا صلى ، والتسبيح الصلاة . وكل محتمل . وذلك فعل الله تعالى بها ، ذلك لأن الجبال لا تعقل فتسبيحها دلالة على تنزيه الله تعالى عن صفات العاجزين والمحدثين .


[11303]:في جـ و ز: دليلا بل.
[11304]:راجع جـ 10 ص 174.
[11305]:في ك: القضية.
[11306]:ضامن بمعنى مضمون.
[11307]:في ز: لم ينازع.
[11308]:راجع جـ 19 ص 170.
[11309]:راجع جـ 14 ص 308.
[11310]:راجع جـ 7 ص 44.
[11311]:في ك: للزروع.
[11312]:في أ وب وجـ وحـ و ز و ط و ك: "أضرت" والتصويب من "الموطأ".
[11313]:كذا في ب وجـ و ز وط وك. وكذا في التهذيب.
[11314]:قراح: مزرعة
[11315]:راجع جـ 14 ص 264 فما بعد.