فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

{ ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ( 79 ) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ( 80 ) ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ( 81 ) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ( 82 ) } .

{ ففهمناها سليمان } وعن مسروق نحوه ، وكذا عن ابن عباس لكنه لم يذكر الكرم ، وعنه بأطول منه ، والضمير المنصوب يعود إلى القضية المفهومة من الكلام أو إلى الحكومة المدلول عليها بذكر الحكم .

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بينما امرأتان معهما ابنان جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكما إلى داوود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينهما فقالت الصغرى : رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به للصغرى ) {[1208]} وهذا الحديث وإن لم يكن داخلا فيما حكته الآية لكنه من جملة ما وقع لهما .

قال المفسرون : دخل رجلان على داود وعنده ابنه سليمان ، أحدهما صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي ، فلم تبق منه شيئا ، فقال : لك رقاب الغنم فقال سليمان : أو غير ذلك ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبوا من ألبانها ومنافعها ، ويقوم أصحاب الغنم على الكرم حتى إذا كان كليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم ، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم ، فقال داوود : القضاء ما قضيت وحكم بذلك .

قال النحاس : إنما قضي داود بالغنم لصاحب الحرث ، لأن ثمنها كان قريبا منه ، وأما في حكم سليمان فقد قيل كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء ، قال جماعة من العلماء : إن داود حكم بوحي ، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود ، فيكون التفهيم على هذا بطريق الوحي ، وقال الجمهور : إن حكمهما كان باجتهاد وكلام أهل العلم في حكم اجتهاد الأنبياء معروف وهكذا ما ذكروه في اختلاف المجتهدين ، وهل كل مجتهد مصيب ؟ أو الحق مع واحد ؟ .

وقد استدل المستدلون بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب ولا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما " أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " {[1209]} فسماه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين ، وإلا لزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين واللازم باطل فالملزوم مثله .

وأيضا يستلزم أن تكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين بالحل والحرمة حلالا وحراما في حكم الله سبحانه ، وهذا اللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله ؛ وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد ، له اجتهاده في تلك الحادثة ، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه فيها إلا بانقطاع المجتهدين ، واللازم باطل فالملزوم مثله .

والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة ، لكن لا يصرون على الخطأ كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان لما ظهر أنه الصواب . وقد أوضح الشوكاني هذه المسألة بما لا مزيد عليه في القول المفيد وأدب الطلب ، فمن أحب الوقوف على تحقيق الحق فليرجع إليهما وإلى المؤلف الذي سميناه حصول المأمول من علم الأصول ، وإلى كتابنا الجنة في الأسوة الحسن بالسنة ، ففيهما ما يغني عن غيرهما .

قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ، ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده . وقال مجاهد : كان هذا صلحا وما فعله داود كان حكما والصلح خير ، فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية ؟ .

قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل ، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها{[1210]} ، وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عنها أو قيمته وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث . وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار لا يلزم صاحبها شيء ، وأدخلوا فسادها في عموم قول النبي : ( جرح العجماء جبار ) {[1211]} ؛ قياسا لجميع أفعالها على جرحها .

ويجاب عنه بأن هذا القياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص . ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يضمن رب الماشية ما أفسدته من غير فرق بين الليل والنهار ويجاب عنه بحديث البراء ، وقد بسط الشوكاني رحمه الله الكلام عليه في شرحه للمنتقى ، ومما يدل على أن هذين الحكمين من داوود وسليمان كانا بوحي من الله سبحانه لا باجتهاد ، قوله : ففهمناها سليمان .

{ وكلا آتينا حكما وعلما } فإن الله سبحانه أخبرنا بأنه أعطى كل واحد منهما هذين الأمرين وهما إن كانا خاصين فصدقهما على هذه القضية التي حكاها الله سبحانه عنهما مقدم على صدقهما على غيرهما ، وإن كانا عامين فهذا الفرد من الحكم والعلم ، وهو كل ما وقع من كل واحد منهما في هذه القضية أحق أفراد ذلك العام بدخوله تحته ودلالته عليه .

ومما يستفاد من ذلك دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم من عدم كون حكم داوود حكما شرعيا ، أي وكل واحد منهما أعطيناه حكما وعلما كثيرا ، لا سليمان وحده ، ولما مدح داوود وسليمان على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل واحد منهما فبدأ بداود فقال :

{ وسخرنا } التسخير التكليف للعمل بلا أجرة ، وسخره تسخيرا كلفه عملا بلا أجرة ، والمراد هنا التذليل أي ذللنا { مع داود الجبال يسبحن } التسبيح إما حقيقة أو مجاز ، وقد قال بالأول جماعة وهو الظاهر ، وذلك أن داود كان إذا سبح سبحت الجبال معه .

وقيل إنها كانت تصلي معه إذا صلى . قاله قتادة ، وهو معنى التسبيح . وقال بالمجاز جماعة آخرون ، وحملوا التسبيح على تسبيح من رآها تعجبا من عظيم خلقها وقدرة خالقها .

وقيل كانت الجبال تسير مع داوود حيث سار ، وكان من رآها سائرة معه سبح ، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق ، خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع الناس ذلك ، وكان داوود هو الذي يسمع وحده . قاله أبو حيان .

{ و } كذا سخرنا { الطير } للتسبيح معه { وكنا فاعلين } ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير ، وقدم الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق وهو جمع طائر ، وجمع الطير طيور وأطيار ، ويقع الطير على الواحد والجمع .

وقال ابن الأنباري : الطير جماعة وتأنيثها أكثر من التذكير ، ولا يقال للواحد طير بل طائر ، وقلما يقال للأنثى طائرة .


[1208]:مسلم 1720- البخاري 1611.
[1209]:مسلم 1716_البخاري 2593.
[1210]:الموطأ كتاب الأقضية 36_الإمام أحمد 5/436.
[1211]:مسلم 1710_البخاري 802بلفظ"العجماء وجرحها جبار".