مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞ذَٰلِكَۖ وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيۡهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ} (60)

أما قوله : { ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { ذلك } قد مضى الكلام فيه في هذه الآية في هذه السورة . وقال الزجاج أي الأمر ما قصصنا عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا .

المسألة الثانية : قوله : { ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه } معناه : قاتل من كان يقاتله ، ثم كان المقاتل مبغيا عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتدئ بالقتال ، قال مقاتل : نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم ، فقال بعضهم لبعض : إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم ، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر ، فأبوا وقاتلوهم . فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم . فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام ما وقع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : وعفا عنهم وغفر لهم وههنا سؤالات :

السؤال الأول : أي تعلق لهذه الآية بما قبلها ؟ الجواب : كأنه سبحانه وتعالى قال مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم .

السؤال الثاني : هل يرجع ذلك إلى المهاجرين خاصة أو إليهم وإلى المؤمنين ؟ الجواب : الأقرب أنه يعود إلى الفريقين فإنه تقدم ذكرهما ، وبين ذلك قوله تعالى : { لينصرنه الله } وبعد القتل والموت لا يمكن ذلك في الدنيا .

السؤال الثالث : ما المراد بالعقوبة المذكورة ؟ الجواب : فيه وجهان : أحدهما : المراد ما فعله مشركو مكة مع المهاجرين بمكة من طلب آثارهم ، ورد بعضهم إلى غير ذلك ، فبين تعالى أن من عاقب هؤلاء الكفار بمثل ما فعلوا فسينصره عليهم ، وهذه النصرة المذكورة تقوي تأويل من تأوله على مجاهدة الكفار لا على القصاص ، لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك والجواب الثاني : أن هذه الآية في القصاص والجراحات ، وهي آية مدنية عن الضحاك .

السؤال الرابع : لم سمى ابتداء فعلهم بالعقوبة ؟ الجواب : أطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } { يخادعون الله وهو خادعهم } .

السؤال الخامس : أي تعلق لقوله : { وإن الله لعفو غفور } بما تقدم ؟ الجواب : فيه وجوه . أحدها : أن الله تعالى ندب المعاقب إلى العفو عن الجاني بقوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } { وأن تعفوا أقرب للتقوى } ، { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة ، فكأنه سبحانه قال : إني قد عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها ، فإني أنا الذي أذنت لك فيه . وثانيها : أنه سبحانه وإن ضمن له النصر على الباغي ، لكنه عرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو والمغفرة فلوح بذكر هاتين الصفتين . وثالثها : أنه سبحانه دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة ، لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده .