السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞ذَٰلِكَۖ وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيۡهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ} (60)

{ ذلك } أي : الأمر المقرّر من صفات الله تعالى الذي قصصناه عليك { ومن عاقب } أي : جازى من المؤمنين { بمثل ما عوقب به } ظلماً من المشركين أي : قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام { ثم بغي عليه } أي : ظلم بإخراجه من منزله ، قال مقاتل : نزلت في قوم من المشركين أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من محرم ، فقال بعضهم لبعض : إنّ أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام ، فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون وكرهوا قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال لأجل الشهر الحرام ، فأبى المشركون ، فقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنصرهم الله تعالى عليهم فذلك قوله تعالى : { لينصرنّه الله } أي : الذي لا كفء له { إنّ الله } أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً { لعفو } عن المؤمنين { غفور } لهم .

فإن قيل : لم سمى ابتداءً فعلهم عقوبة مع أن العقاب من العقب وهو منتف في الابتداء ؟ أجيب : بأنه أطلق عليه ذلك للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى ، 40 ] { يخادعون الله وهو خادعهم } [ النساء ، 142 ] ، وكما في قوله : كما تدين تدان .

فإن قيل : كيف طابق ذكر العفو الغفور في هذا الموضع مع أنّ ذلك الفعل جائز للمؤمنين ؛ لأنهم مظلومون ؟ أجيب : بأن المنتصر لما اتبع هواه في الانتقام ، وأعرض عما ندب الله تعالى له بقوله تعالى : { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } [ الشورى ، 43 ] وبقوله تعالى : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ الشورى ، 40 ] وبقوله تعالى : { وأن تعفو أقرب للتقوى } [ البقرة ، 237 ] ، فكان في إعراضه عما ندب إليه نوع إساءة أدب فكأنه تعالى قال : عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها له ، فإني أنا الذي أذنت له فيها ، وفي ذكر العفو تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه .