التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62)

ارتقى الاستدلال من التذكير بالتصرف الرباني في ذوات المخلوقات إلى التذكير بتصرفه في أحوال الناس التي لا يخلو عنها أحد في بعض شؤون الحياة وذلك حال الاضطرار إلى تحصيل الخير ، وحال انتياب السوء ، وحال التصرف في الأرض ومنافعها . فهذه ثلاثة الأنواع لأحوال البشر . وهي : حالة الاحتياج ، وحالة البؤس ، وحالة الانتفاع .

فالأولى : هي المضمنة في قوله { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول ، وهذه مرتبة الحاجيات فالمرء محتاج إلى أمور كثيرة بها قوام أوده ليست متصلة بذاته مثل الأقوات والنكاح والملابس اللازمة فالمرء يتطلبها بوجوه من المعاوضات ، وقد يتعسر بعضها وهي تتعسر بقدر وفرة منافعها وعزة حصولها فيسأل الله أن يعطيها .

والاضطرار : افتعال من الضرورة لا من الضر . وتقديره : أنه نالته الضرورة فطاوعها . وليس له فعل مجرد وإنما يقال : اضطره كذا إلى كذا .

واللام في { المضطر } لتعريف الجنس المسمى بلام العهد الذهني ، أي يجيب فرداً معهوداً في الذهن بحالة الاضطرار .

والإجابة : إعطاء الأمر المسؤول . والمعنى : أن المضطر إذا دعا لتحصيل ما اضطر إليه فإنه لا يجيبه إلا الله بقطع النظر عن كونه يجيب بعضاً ويؤخر بعضاً .

وحالة البؤس : هي المشار إليها بقوله { ويكشف السوء .

والكشف : أصله رفع الغشاء ، فشبه السوء الذي يعتري المضرور بغشاء يحول دون المرء ودون الاهتداء إلى الخلاص تشبيه معقول بمحسوس .

وَرُمز إلى المشبه به بالكشف الذي هو من روادف الغشاء . وهو أيضاً مستعار للإزالة بقرينة تعديته إلى السوء . والمعنى : من يزيل السوء . وهذه مرتبة الضروري فإن معظمها أو جميعها حفظ من تطرق السوء إلى مهم أحوال الناس مثل الكليات وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسب ، والمال ، والعرض .

والمعنى : إن الله يكشف السوء عن المسوء إذا دعاه أيضاً فحذف من الجملة المعطوفة لدلالة ما ذكر مع الجملة المعطوف عليها ، أي يكشف السوء عن المستاء إذا دعاه .

وظاهر التقييد بالظرف يقتضي ضمان الإجابة . والواقع أن الإجابة منوطة بإرادة الله تعالى بحسب ما يقتضيه حال الداعي وما يقتضيه معارضه من أصول أخرى ، والله أعلم بذلك .

وحالة الانتفاع : هي المشار إليها بقوله { ويجعلكم خلفاء الأرض } أي يجعلكم تعمرون الأرض وتجتنون منافعها ، فضمن الخلفاء معنى المالكين فأضيف إلى الأرض على تقدير : مالكين لها ، والملك يستلزم الانتفاع بما ينتفع به منها . وأفاد خلفاء بطريق الإلتزام معنى الوراثة لمن سبق ، فكل حي هو خلف عن سلفه . والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلاً بعد جيل . وهذا كقوله تعالى حكاية لقول نوح { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } [ هود : 61 ] . وهذه مرتبة التحسيني .

وقد جمعت الآية الإشارة إلى مراتب المناسب وهو ما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً وهو من مسالك العلة في أصول الفقه .

ولما اقتضته الخلافة من تجدد الأبناء عقب الآباء والأجيال بعد الأجيال ، وما اقتضته الاستجابة وكشف السوء من كثرة الداعين والمستائين عبر في أفعال الجعل التي تعلقت بها بصيغة المضارع الدال على التجدد بخلاف أفعال الجعل الأربعة التي في الآية قبلها .

ثم استؤنف عقب هذا الاستدلال باستفهام إنكاري تكريراً لما تقدم عقب الأدلة السابقة زيادة في تعداد خطئهم بقوله { أإله مع الله قليلاً ما تذكرون } .

وانتصب { قليلاً } على الحال من ضمير الخطاب في قوله { ويجعلكم خلفاء الأرض } أي فعل ذلك لكم وأنتم في حال قلة تذكركم ، فتفيد الحال معنى التعجب من حالهم .

والتذكر : من الذُّكر بضم الذال وهو ضد النسيان فهو استحضار المعلوم ، أي قليلاً استحضاركم الافتقار إلى الله وما أنتم فيه من إنعامه فتهتدوا بأنه الحقيق بأن لا تشركوا معه غيره . فالمقصود من التذكر التذكر المفيد استدلالاً . و { ما } مصدرية والمصدر هو فاعل { قليلاً .

والقليل هنا مكنّى به عن المعدوم لأن التذكر المقصود معدوم منهم ، والكناية بالقليل عن المعدوم مستعملة في كلامهم . وهذه الكناية تلميح وتعريض ، أي إن كنتم تذكرون فإن تذكركم قليل .

وأصل { تذكرون } تتذكرون فأدغمت تاء التفعل في الذال لتقارب مخرجيهما تخفيفاً وهو إدغام سماعي .

وقرأ الجمهور { تذكرون } بتاء الخطاب . وقرأه روح عن أبي عمرو وهشام عن ابن عامر بياء الغيبة على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، ففي قراءة الجمهور نكتة توجيه الخطاب إلى المشركين مكافحة لهم ، وفي قراءة روح وهشام نكتة الإعراض عنهم لأنهم استأهلوا الإعراض بعد تذكرهم .