التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

الخطاب للمؤمنين الذين سبق لومهم بقوله : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذ قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] ، فالنفير المأمور به ما يستقبل من الجهاد . وقد قدّمنا أنّ الاستنفار إلى غزوة تبوك كان عامَّاً لكلّ قادر على الغزو : لأنّها كانت في زمن مشقّة ، وكان المغزُوُّ عدوّاً عظيماً ، فالضمير في { انفروا } عام للذين استُنفروا فتثاقلوا ، وإنّما استُنفِر القادرون ، وكان الاستنفار على قدر حاجة الغزو ، فلا يقتضي هذا الأمر توجّه وجوب النفير على كلّ مسلم في كلّ غزوة ، ولا على المسلم العاجز لعمىً أو زَمانة أو مرض ، وإنّما يجري العمل في كلّ غزوة على حسب ما يقتضيه حالها وما يصدر إليهم من نفير . وفي الحديث : " وإذا استنفرتم فانْفِروا " .

و { خفافا } جمع خفيف وهو صفة مشبّهة من الخفّة ، وهي حالة للجسم تقتضي قلّة كمية أجزائه بالنسبة إلى أجسام أخرى متعارفة ، فيكون سهْلَ التنقّل سهل الحمل . والثقال ضدّ ذلك . وتقدّم الثقل آنفاً عند قوله : { اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] .

والخفاف والثقال هنا مستعاران لما يشابههما من أحوال الجيش وعلائقهم ، فالخفّة تستعار للإسراع إلى الحرب ، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدةِ ، قال قُريط بن أنيف العنبري :

قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم *** طَاروا إليه زَرَافَات ووُحدانا

فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما في قول أبي الطيب :

ثِقال إذا لاقَوْا خِفاف إذا دُعوا

وتستعار الخفّة لقلّة العدد ، والثقلُ لكثرة عدد الجيش كما في قول قُريط : « زَرافات ووُحدانا » .

وتستعار الخفّة لتكرير الهجوم على الأعداء ، والثقل للتثبّت في الهجوم . وتستعار الخفّة لقلّة الأزوَاد أو قلّة السلاح ، والثقل لضدّ ذلك . وتستعار الخفّة لقلّة العيال ، والثقل لضدّ ذلك وتستعار الخفّة للركوب لأنّ الراكب أخفّ سيراً ، والثقل للمشي على الأرجل وذلك في وقت القتال . قال النابغة :

على عارفاتٍ للطِّعان عوابِــسٍ *** بهِنَّ كلوم بين دامٍ وجـــــالب{[246]}

إذ استُنزلوا عنهنّ للضَّرب ارقلوا *** إلى الموت ارْقالَ الجمال المصَاعب

وكلّ هذه المعاني صالحة للإرادة من الآية ولمّا وقع { خفافاً وثقالاً } حالاً من فاعل { انفروا } ، كان محمل بعض معانيهما على أن تكون الحال مقدّرة والواو العاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى للتقسيم ، فهي بمعنى ( أو ) ، والمقصود الأمر بالنفير في جميع الأحوال .

والمجاهدة : المغالبة للعدوّ ، وهي مشتقّة من الجُهد بضمّ الجيم أي بذل الاستطاعة في المغالبة ، وهو حقيقة في المدافعة بالسلاح ، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاقٍ على الجيش واشتراءِ الكراع والسلاح ، مجاز بعلاقة السببية .

وقد أمر الله بكلا الأمرين فمن استطاعهما معاً وجبا عليه ، ومن لم يستطع إلاّ واحداً منهما وجب عليه الذي استطاعه منهما .

وتقديم الأموال على الأنفس هنا : لأنّ الجهاد بالأموال أقلّ حُضوراً بالذهن عند سماع الأمر بالجهاد ، فكان ذكره أهمّ بعد ذكر الجهاد مجملاً .

والإشارة ب { ذلكم } إلى الجهاد المستفاد من { وجاهدوا } .

وإبهام { خير } لقصد توقّع خير الدنيا والآخرة من شعب كثيرة أهمها الاطمئنان من أن يغزوهم الروم ولذلك عُقب بقوله : { إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم تعلمون ذلك الخير وشعبه . وفي اختيار فعل العلم دون الإيمان مثلاً للإشارة إلى أنّ من هذا الخير ما يخفى فيحتاج متطلّب تعيين شعبه إلى إعمال النظر والعلم .


[246]:ي على خيل عارفات للطعان أي متعودات به. -