قوله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } الآية .
لمَّا توعد من لا ينفر مع الرسول ، أتبعه الأمر الجزم ، فقال : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } نصبهما على الحال من فاعل " انفرُوا " . قال الحسنُ ، والضحاكُ ، ومجاهد ، وقتادة وعكرمة : " شُباناً وشُيوخاً " {[17825]} . وعن ابن عباسٍ : نشاطاً وغير نشاط{[17826]} . وقال عطيةُ العوفي : ركباناً ومشاةً{[17827]} . وقال أبو صالحٍ : " خفافاً من المال ، أي : فقراء و " ثقالاً " أي : أغنياء " {[17828]} . وقال ابن زيد " الثقيل : الذي له الضيعة ، والخفيف : الذي لا ضيعة له{[17829]} " .
وقيل : " خفافاً " من السلاح أي : مقلين منه ، و " ثِقالاً " مستكثرين منه . وقال مرة الهمداني : صحاحاً ومراضاً .
وقال يمان بن رباب " عزاباً ومتأهلين " ، وقيل غير ذلك . والصحيح أنَّ الكلَّ داخل فيه ؛ لأنَّ الوصف المذكور وصف كلّي ؛ فيدخل فيه كل هذه الجزئيات ، فقد روى ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعَلَيَّ أنَّ أنفر ؟ قال : " ما أنت إلاَّ خفيفٌ أو ثقيلٌ " فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ، ووقف بين يديه ؛ فنزل قوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 و الفتح : 17 ] .
وقال مجاهدٌ : " إنَّ أبا أيُّوب شهد بدراً مع الرسول ، ولم يتخلف عن الغزوات مع المسلمين ، ويقول قال الله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } فلا أجدني إلاَّ خفيفاً أو ثقيلاً " {[17830]} . وعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه ، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، فقلت : يا عم أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنَّ من أحبَّه ابتلاه . وعن الزهري : خرج سعيدُ بنُ المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنَّك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع . وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور ، فقال : أنْزلَ اللهُ علينا في سورة براءة : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً }{[17831]} [ التوبة : 41 ] والقائلون بهذا القول يقولون : إنَّ هذه الآية نسخت بقوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] وبقوله : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ } [ التوبة : 91 ] وقال الخراساني نسخت بقوله { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] .
ولقائل أن يقول : اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك ، واتفقوا على أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً ، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا الوجوب ليس على الأعيان ، بل من فروض الكفايات ، فمنْ أمره الرسولُ بالخروج ، لزمه خفافاً وثقالاً ، ومن أمره بأن يبقى ترك النفير . وحينئذٍ لا حاجة إلى التزام النسخ . وأيضاً فقوله : { وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] دليل على أنَّ قوله : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } إنَّما يتناولُ من كان قادراً متمكناً ، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف ، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف ، فدلَّ على عدم النسخ فيها .
قوله : { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله } .
الأول : أنَّها تَدُلُّ على أنَّ الجهادَ يجبُ على من له المال والنفس ، ومن لم يكن له ذلك ، لم يجب عليه الجهاد .
والثاني : أنَّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي ، ويجب بالمالِ إذا ضعف عن الجهادِ بنفسه ؛ فيلزمه أن ينيبَ من يغزُو عنه بنفقة من عنده ، وذهب إلى هذا كثيرٌ من العلماء .
ثم قال : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
فإن قيل : كيف يصح أن يقال : الجهادُ خير من القعُودِ عنه ، ولا خير في القعود ؟
الأول : أنَّ لفظ " خير " يستعمل في شيئين :
أحدهما : بمعنى : هذا خير من الآخر . والثاني : أنه خير في نفسه ، كقوله تعالى { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، وعلى هذا سقط السُّؤال .
والثاني : سلمنا أنَّ المراد كونه خيراً من غيره ، إلا أن التقدير : أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممَّا يستفيده القاعد عنه من الرَّاحة والتنعم بها ، ولذلك قال تعالى : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.