اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

قوله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } الآية .

لمَّا توعد من لا ينفر مع الرسول ، أتبعه الأمر الجزم ، فقال : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } نصبهما على الحال من فاعل " انفرُوا " . قال الحسنُ ، والضحاكُ ، ومجاهد ، وقتادة وعكرمة : " شُباناً وشُيوخاً " {[17825]} . وعن ابن عباسٍ : نشاطاً وغير نشاط{[17826]} . وقال عطيةُ العوفي : ركباناً ومشاةً{[17827]} . وقال أبو صالحٍ : " خفافاً من المال ، أي : فقراء و " ثقالاً " أي : أغنياء " {[17828]} . وقال ابن زيد " الثقيل : الذي له الضيعة ، والخفيف : الذي لا ضيعة له{[17829]} " .

وقيل : " خفافاً " من السلاح أي : مقلين منه ، و " ثِقالاً " مستكثرين منه . وقال مرة الهمداني : صحاحاً ومراضاً .

وقال يمان بن رباب " عزاباً ومتأهلين " ، وقيل غير ذلك . والصحيح أنَّ الكلَّ داخل فيه ؛ لأنَّ الوصف المذكور وصف كلّي ؛ فيدخل فيه كل هذه الجزئيات ، فقد روى ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعَلَيَّ أنَّ أنفر ؟ قال : " ما أنت إلاَّ خفيفٌ أو ثقيلٌ " فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ، ووقف بين يديه ؛ فنزل قوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 و الفتح : 17 ] .

وقال مجاهدٌ : " إنَّ أبا أيُّوب شهد بدراً مع الرسول ، ولم يتخلف عن الغزوات مع المسلمين ، ويقول قال الله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } فلا أجدني إلاَّ خفيفاً أو ثقيلاً " {[17830]} . وعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه ، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، فقلت : يا عم أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنَّ من أحبَّه ابتلاه . وعن الزهري : خرج سعيدُ بنُ المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنَّك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع . وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور ، فقال : أنْزلَ اللهُ علينا في سورة براءة : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً }{[17831]} [ التوبة : 41 ] والقائلون بهذا القول يقولون : إنَّ هذه الآية نسخت بقوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] وبقوله : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ } [ التوبة : 91 ] وقال الخراساني نسخت بقوله { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] .

ولقائل أن يقول : اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك ، واتفقوا على أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً ، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا الوجوب ليس على الأعيان ، بل من فروض الكفايات ، فمنْ أمره الرسولُ بالخروج ، لزمه خفافاً وثقالاً ، ومن أمره بأن يبقى ترك النفير . وحينئذٍ لا حاجة إلى التزام النسخ . وأيضاً فقوله : { وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] دليل على أنَّ قوله : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } إنَّما يتناولُ من كان قادراً متمكناً ، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف ، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف ، فدلَّ على عدم النسخ فيها .

قوله : { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله } .

فيه قولان :

الأول : أنَّها تَدُلُّ على أنَّ الجهادَ يجبُ على من له المال والنفس ، ومن لم يكن له ذلك ، لم يجب عليه الجهاد .

والثاني : أنَّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي ، ويجب بالمالِ إذا ضعف عن الجهادِ بنفسه ؛ فيلزمه أن ينيبَ من يغزُو عنه بنفقة من عنده ، وذهب إلى هذا كثيرٌ من العلماء .

ثم قال : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .

فإن قيل : كيف يصح أن يقال : الجهادُ خير من القعُودِ عنه ، ولا خير في القعود ؟

فالجوابُ : من وجهين :

الأول : أنَّ لفظ " خير " يستعمل في شيئين :

أحدهما : بمعنى : هذا خير من الآخر . والثاني : أنه خير في نفسه ، كقوله تعالى { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .

وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، وعلى هذا سقط السُّؤال .

والثاني : سلمنا أنَّ المراد كونه خيراً من غيره ، إلا أن التقدير : أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممَّا يستفيده القاعد عنه من الرَّاحة والتنعم بها ، ولذلك قال تعالى : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .


[17825]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/376-377) عن الحسن والضحاك وعكرمة ومجاهد ومقاتل وأبي طلحة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/440) عن عكرمة وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/296) عن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد وعكرمة.
[17826]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/377-378) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/440) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
[17827]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/378) وذكره البغوي في "تفسيره" (2/296).
[17828]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/296).
[17829]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/378) وذكره البغوي (2/296).
[17830]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/440) وعزاه إلى ابن سعد والحاكم عن ابن سيرين.
[17831]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/296-297) عن الزهري.