محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

ولما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول لتبوك ، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر ، أتبعه بهذا الأمر الجَزْم ، فقال سبحانه :

41 { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } .

{ انفروا خفافا وثقالا } حالان من ضمير المخاطبين ، أي على أي حال كنتم خفافا في النفور لنشاطكم له ، وثقالا عنه ، لمشقته عليكم ، أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم ، وثقالا لكثرتها ، أو خفافا من السلاح وثقالا منه ، أو ركبانا ومشاة ، أو شبابا وشيوخا أو مهازيل وسمانا ، واللفظ الكريم يعم ذلك كله والمراد حال سهولة النفر وحال صعوبته .

وقد روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط ، ويستشهدون بهذه الآية .

ولما كانت البعوث إلى الشام ، قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى على هذه الآية ، فقال : " أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا ، جهزوني يا بني فقال بنوه ، يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك فقال : ما سمع الله عذر أحد ، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل " .

وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ويقول : " فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا " .

وقال أبو راشد الحراني : " وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة ، بحمص ، وقد فصل عنها يريد الغزو ، فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : أتت علينا سورة البعوث { انفروا خفافا وثقالا } .

وعن حيان بن زيد قال : " نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا ، على حمص- فرأيت شيخا كبيرا هِمًّا ، قد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت إليه فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك ، قال فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه ، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله عز وجل " روى ذلك كله ابن جرير . {[4537]}

فرحم الله تلك الأنفس الزكية ، وحياها من بواسل باعت أرواحها في مرضاة ربها ، وإعلاء كلمته ، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية .

ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ، ومرضاة رسوله فقال : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون } ما في اسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى البعد ، للإيذان ببعد منزلته في الشرف ، والمراد بكونه خيرا أنه خير في نفسه ، أو خير من الدعة والتمتع بالأموال .

تنبيه :

قال الحاكم : الجهاد بالمال ضروب ، منها إنفاقه على نفسه في السير في الجهاد ، ومنها صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد ومنها صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه .

وقال بعض مفسري الزيدية : ذكر المؤيد بالله أن من له فضل مال ، وجب عليه أن يدفعه إلى الإمام ، إن دعت إليه حاجة .

وذكر الراضي بالله وجوب دفع ما دعت الحاجة إليه من الأموال في الجهاد ، قليلا كان أو كثيرا ويتعين لك بتعيين الإمام . وأما من طريق الحسبة ، فقال الراضي بالله : يجب ذلك إن حصل خلل لا يسده إلا المال ، ويدخل في هذا إلزام الضِّيفة ، وتنزيل الدور ، وقد قال الراضي بالله : للإمام أن يلزم الرغبة على ما يراه من المصلحة .

/ وعن المؤيد بالله : إن للإمام إنزال جيشه دور الرعية إذا لم يتم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجند ، واحتاجوا إلى ذلك ، كما يجوز دخول الدار المغصوبة لإزالة المنكر ، وكذا ذكر أبو مضر أنه ينزل في الزائد على حاجة أهل الدور . وأما من ينزل الدار من جيشه بظلم أو فساد ، فإن عُرِفَ ذلك عورض بين مطلب الإمام في دفعه المنكر ، وبين هذا المنكر الواقع من الجند أيهما أغلظ . انتهى .


[4537]:انظر تفسير الطبري، الصفحة 138 و 139 من الجزء العاشر (طبعة الحلبي الثانية).