السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

ولما بلغت هذه المواعظ من القلوب الواعية مبلغاً هيأها للقبول أقبل عليها سبحانه وتعالى فقال :

{ انفروا خفافاً وثقالاً } أي : على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها وعلى الصفة التي يثقل عليكم وهذان الوصفان يدخل تحتهما أقسام كثيرة ولهذا اختلفت عبارات المفسرين فيها فقال ابن عباس : نشاطاً وغير نشاط ، وقال الحسن : شباناً وشيوخاً ، وقال عطية العوفي : ركباناً ومشاة ، وقال أبو صالح : فقراء وأغنياء ، وقال الحكم بن عيينة : مشاغيل وغير مشاغيل ، وقال حرة الهمداني : أصحاء وأصحاب مرض ، وعن صفوان بن عمرو كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك ، فرفع حاجبيه وقال : استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل : إنك عليل صاحب مرض فقال : استنفرنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع . وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعليّ أن أنفر قال : «ما أنت إلا خفيف أو ثقيل » فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج } ( النو ، 61 ) أي : فهي منسوخة بذلك وقال ابن عباس : نسخت بقوله تعالى : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } ( التوبة ، 91 ) الآية ، وقال السدي : لما نزلت اشتدّ شأنها على المسلمين فنسخها الله تعالى وأنزل { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } وقال عطاء الخراساني : منسوخة بقوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } ( التوبة ، 122 ) وقوله تعالى : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } أمر إيجاب للجهاد أي : ما أمكن لكم بهما كليهما أو أحدهما على حسب الحال والحاجة .

{ ذلكم } أي : هذا الأمر العظيم { خير لكم } أي : خاص بكم ويجوز أن يكون أفعل تفضيل ، أي : عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله هل يمكن بلوغ درجة المجاهد فقال : ( هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر ) ثم ختم تعالى الآية بقوله تعالى : { إن كنتم تعلمون } أي : ما حصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب صدق .