البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (41)

{ انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } لما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وضرب له من الأمثال ما ضرب ، أتبعه بهذا الأمر الجزم .

والمعنى : انفروا على الوصف الذي يحف عليكم فيه الجهاد ، أو على الوصف الذي يثقل .

والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ، ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا .

وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أعليّ أنْ أنفر ؟ قال : نعم ، حتى نزلت : { ليس على الأعمى حرج } وذكر المفسرون من معاني الخفة والثقل أشياء لا على وجه التخصيص بعضها دون بعض ، وإنما يحمل ذلك على التمثيل لا على الحصر .

قال الحسن وعكرمة ومجاهد : شباباً وشيوخاً .

وقال أبو صالح : أغنياء وفقراء في اليسر والعسر .

وقال الأوزاعي : ركباناً ومشاة .

وقيل : عكسه .

وقال زيد بن أسلم : عزباناً ومتزوجين .

وقال جويبر : أصحاء ومرضى .

وقال جماعة : خفافاً من السلاح أي مقلين فيه ، وثقالاً أي مستكثرين منه .

وقال الحكم بن عيينة وزيد بن علي : خفافاً من الإشغال وثقالاً بها .

وقال ابن عباس : خفافاً من العيال ، وثقالاً بهم .

وحكى التبريزي : خفافاً من الأتباع والحاشية ، ثقالاً بهم .

وقال علي بن عيسى : هو من خفة اليقين وثقله عند الكراهة .

وحكى الماوردي : خفافاً إلى الطاعة ، وثقالاً عن المخالفة .

وحكى صاحب الفتيان : خفافاً إلى المبارزة ، وثقالاً في المصابرة .

وحكى أيضاً : خفافاً بالمسارعة والمبادرة ، وثقالاً بعد التروي والتفكر .

وقال ابن زيد : وقال ابن زيد : ذوي صنعة وهو الثقيل ، وغير ذوي صنعة وهو الخفيف .

وحكى النقاش : شجعاناً وجبناً .

وقيل : مهازيل وسماتاً .

وقيل : سباقاً إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش ، والثقال الجيش بأسره .

وقال ابن عباس وقتادة : النشيط والكسلان .

والجمهور على أن الأمر موقوف على فرض الكفاية ، ولم يقصد به فرض الأعيان .

وقال الحسن وعكرمة : هو فرض على المؤمنين عنى به فرض الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخ بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وانتصب خفافاً وثقالاً على الحال .

وذكر بأموالكم وأنفسكم إذ ذلك وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله ، فحض على كمال الأوصاف وقدِّمت الأموال إذ هي أول مصرف وقت التجهيز ، وذكر ما المجاهد فيه وهو سبيل الله .

والخيرية هي في الدنيا بغلبة العدو ، ووراثة الأرض ، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله .

وقد غزا أبو طلحة حتى غزا في البحر ومات فيه ، وغزا المقداد على ضخامته وسمنه ، وسعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه ، وابن أم مكتوم مع كونه أعمى .