قوله : { ألم تر } بمعنى ألم تعلم ، و { مثلاً } مفعول بضرب ، و { كلمة } مفعول أول بها ، و { ضرب } هذه تتعدى إلى مفعولين ، لأنها بمنزلة جعل ونحوه إذ معناها : جعل ضربها . وقال المهدوي : { مثلاً } مفعول ، و { كلمة } بدل منه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على أنها تتعدى إلى مفعول واحد ، وإنما أوهم في هذا قلة التحرير في { ضرب } هذه .
والكاف في قوله : { كشجرة } في موضع الحال ، أي مشبهة شجرة .
قال القاضي أبو محمد : وقال ابن عباس وغيره : «الكلمة الطيبة » هي لا إله إلا الله ، مثلها الله ب «الشجرة الطيبة » ، وهي النخلة في قول أكثر المتأولين ، فكأن هذه الكلمة { أصلها ثابت } في قلوب المؤمنين ، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والحسنة وما يتحصل من عفو الله ورحمته - هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد ، ويتنزل بها من قبل الله تعالى .
وقرأ أنس بن مالك «ثابت أصلها »{[7060]} وقالت فرقة : إنما مثل الله ب «الشجرة الطيبة » المؤمن نفسه ، إذ «الكلمة الطيبة » لا تقع إلا منه ، فكأن الكلام كلمة طيبة وقائلها . وكأن المؤمن ثابت في الأرض وأفعاله وأقواله صاعدة ، فهو كشجرة فرعها في السماء ، وما يكون أبداً من المؤمن من الطاعة ، أو عن الكلمة من الفضل والأجر والغفران هو بمثابة الأكل الذي تأتي به كل حين .
وقوله عن الشجرة { وفرعها في السماء } أي في الهواء نحو السماء ، والعرب تقول عن المستطيل نحو الهواء ، وفي الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً »{[7061]} ، وفي كتاب سيبويه : والقيدودة : الطويل في غير سماء{[7062]} .
قال القاضي أبو محمد : كأنه انقاد وامتد .
وقال أنس بن مالك وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد : «الشجرة الطيبة » في هذه الآية هي النخلة ، وروي ذلك في أحاديث {[7063]}وقال ابن عباس أيضاً : هي شجرة في الجنة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون شجرة غير معينة إلا أنها كل ما اتصف بهذه الصفات{[7064]} فيدخل في ذلك النخلة وغيرها . وقد شبه الرسول عليه السلام المؤمن الذي يقرا القرآن بالأترجة{[7065]} ، فلا يتعذر أيضاً أن يشبه بشجرتها .
استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى : { وبرزوا لله جميعاً إلى قوله تحيتهم فيها سلام } ، فضرب الله مثلاً لكلمة الإيمان وكلمة الشرك . فقوله : { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً } إيقاظ للذهن ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام ، وذلك مثل قولهم : ألم تعلم . ولم يكن هذا المثَل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به ، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل . وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف لَمْ } التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدالّ عليها فعل { ضرب } بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به .
والاستفهام في { ألم تر } إنكاري ، نُزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم ، أو هو مستعمل في التعجيب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه ، أو هو للتقرير ، ومثله في التقرير كثير ، وهو كناية عن التحريض على العلم بذلك .
والخطاب لكل من يصلح للخطاب . والرؤية علمية معلّق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام ب { كيف } . وإيثار { كيف } هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه .
وتقدم المثَل في قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } في سورة البقرة ( 17 ) .
وضَرْب المثل : نَظْم تركيبه الدال على تشبيه الحالة . وتقدم عند قوله : { أن يضرب مثلاً ما } في سورة البقرة ( 26 ) .
وإسناد { ضرب } إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام .
والمثَل لما كان معنى متضمناً عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل { ضرب } به على وجه إجمال يفسره قوله : { كلمة طيبة كشجرة } إلى آخره ، فانتصب { كلمة } على البدلية من { مثلاً } بدلَ مفصّل من مجمل ، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله : { ومثل كلمة خبيثة } .
والكلمة الطيبة قيل : هي كلمة الإسلام ، وهي : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والكلمة الخبيثة : كلمة الشرك .
والطيبة : النافعة . استعير الطيب للنفع لحُسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية . وتقدم عند قوله تعالى : { وجرين بهم بريح طيبة } في سورة يونس ( 22 ) .
والفَرع : ما امتد من الشيء وعَلا ، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء . وفرع الشجرة غصنها ، وأصل الشجرة : جذرها .
والسماء مستعمل في الارتفاع ، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر .
وفي « جامع الترمذي » عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " قال : هي النخلة ، { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } قال : هي الحَنْظَل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة}، يعني حسنة، يعني كلمة الإخلاص، {كشجرة طيبة}، يعني بالطيبة الحسنة، كما أنه ليس في الكلام شيء أحسن ولا أطيب من الإخلاص، قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فكذلك ليس في الثمار شيء أحلى ولا أطيب من الرطبة، وهي النخلة، {أصلها ثابت} في الأرض، {وفرعها}، يعني رأسها، {في السماء} يقول: هكذا الإخلاص ينبت في قلب المؤمن، كما تنبت النخلة في الأرض، إذا تكلم بها المؤمن، فإنها تصعد إلى السماء، كما أن النخلة رأسها في السماء، كما أن النخلة لها فضل على الشجر في الطول، والطيب، والحلاوة، فكذلك كلمة الإخلاص لها فضل على سائر الكلام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد بعين قلبك فتعلم كيف مثّل الله مثلاً وشبّه شبها "كلمة طيبة"، ويعني بالطيبة: الإيمان به جلّ ثناؤه: "كشجرة طيبة "الثمرة، وترك ذكر الثمرة استغناء بمعرفة السامعين عن ذكرها بذكر الشجرة. وقوله: "أصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السّماءِ" يقول عزّ ذكره: أصل هذه الشجرة ثابت في الأرض، وفرعها، وهو أعلاها في السماء: يقول: مرتفع علوا نحو السماء.
واختلفوا في هذه "الشجرة" التي جعلت للكلمة الطيبة مثلا.
وقال آخرون: بل هي شجرة في الجنة...
وأولى القولين بالصواب في ذلك قولُ من قال: هي "النخلة"، لصحَّة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدثنا به الحسن بن محمد قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، صحبتُ ابنَ عمر إلى المدينة، فلم أسمعه يُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثًا واحدًا قال، كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي بجُمَّار فقال: من الشَّجر شجرةٌ مَثَلُها مثلُ الرَّجُل المسلم. فأردت أن أقول "هي النخلة"، فإذا أنا أصغرُ القوم، فسكتُّ، [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة]...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أبو بكر الكيساني: {كلمة طيبة} هو القرآن، و {كلمة خبيثة} [إبراهيم: 26] هي الكتب التي أحدثها الناس؛ شبه القرآن بالشجرة الطيبة، وهي النخلة على ما ذكر، إن ثبت، أو كل شجرة مثمرة... وقال: إنما شبه القرآن بالشجرة الطيبة لأن الشجرة الطيبة هي باقية إلى آخر الدهر، ينتفع بها الناس بجميع أنواع المنافع، لا يقطعونها، فهي تدوم، وتبقى دهرا. فعلى ذلك القرآن، ينتفع به الناس، وهو دائم أبدا.
{أصلها ثابت وفرعها ثابت في السماء} {أصلها ثابت} لها قرار. فعلى ذلك القرآن، هو ثابت بالحجج والبراهين...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
الكلمة الطيبة... عنى بها المؤمن نفسه، قاله عطية العوفي والربيع بن أنس... وحكى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة: الإيمان، والشجرة الطيبة: المؤمن...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما ضرب المثل بالكلمة الطيبة للدعاء إليها في كل باب يحتاج إلى العمل عليه، وفي كل باب من أبواب العلم. ومعنى "فرعها في السماء "مبالغة له في الرفعة، فالأصل سافل، والفرع عال، إلا أنه من الأصل يوصل إلى الفرع. والأصل في باب العلم مشبه بأصل الشجرة التي تؤدي إلى الثمرة التي هي فرع ذلك الأصل، ويشبه بأصل الدرجة التي يترقى منها إلى أعلى مرتبة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذا مثل ضربه الله للإيمان والمعرفة به سبحانه، فشبهه بشجرة طيبة، وأصل تلك الشجرة ثابت في الأرض وفروعها باسقة وثمراتها وافية. تؤتي أكلها كل وقت، وينتفع بها أهلُها كل حين. وأصل تلك الشجرة المعرفة، والإيمان مُصَحَّحاً بالأدلة والبراهين. وفروعها الأعمال الصالحة التي هي الفرائض ومجانبة المعاصي...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"كشجرة طيبة" أكثر أهل التفسير على أن الشجرة الطيبة هاهنا: هي النخلة، وقد بينت برواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: «أخبروني عن شجرة هي مثل المؤمن؟ فوقعت الصحابة في شجر البوادي. قال ابن عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هي النخلة. قال ابن عمر: فذكرت لأبي أنه كان وقع في نفسي كذا، فقال: لو كنت قلته كان أحب إلي من حمر النعم»...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... الكلمة الطيبة: كلمة التوحيد، وقيل: كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. وعن ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة الثمار، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك... وقوله: {فِي السماء} معناه في جهة العلوّ والصعود، ولم يرد المظلة، كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه.
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال الأشقياء وأحوال السعداء، ذكر مثالا يبين الحال في حكم هذين القسمين، وهو هذا المثل... [و] اعلم أنه تعالى ذكر شجرة موصوفة بصفات أربعة ثم شبه الكلمة الطيبة بها.
فالصفة الأولى: لتلك الشجرة كونها طيبة، وذلك يحتمل أمورا.
أحدها: كونها طيبة المنظر والصورة والشكل.
وثالثها: كونها طيبة الثمرة يعني أن الفواكه المتولدة منها تكون لذيذة مستطابة.
ورابعها: كونها طيبة بحسب المنفعة يعني أنها كما يستلذ بأكلها فكذلك يعظم الانتفاع بها، ويجب حمل قوله: شجرة طيبة، على مجموع هذه الوجوه لأن اجتماعها يحصل كمال الطيب.
والصفة الثانية: قوله: {أصلها ثابت} أي راسخ باق آمن الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء وذلك لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الانقراض والانقضاء، فهو وإن كان يحصل الفرح بسبب وجدانه إلا أنه يعظم الحزن بسبب الخوف من زواله وانقضائه، أما إذا علم من حاله أنه باق دائم لا يزول ولا ينقضي فإنه يعظم الفرح بوجدانه ويكمل السرور بسبب الفوز به.
والصفة الثالثة: قوله: {وفرعها في السماء} وهذا الوصف يدل على كمال حال تلك الشجرة من وجهين:
الأول: أن ارتفاع الأغصان وقوتها في التصاعد يدل على ثبات الأصل ورسوخ العروق.
والثاني: أنها متى كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمراتها نقية ظاهرة طيبة عن جميع الشوائب. وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"ألم تر كيف ضرب الله مثلا" لما ذكر تعالى مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ذكر مثل أقوال المؤمنين وغيرها... فالإيمان ثابت في قلب المؤمن، وعمله وقوله وتسبيحه عال مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة، وما يكسب من بركة الإيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها، من الرطب والبسر والبلح والزهو والتمر والطلع...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
شبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع. وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: الكلمة الطيبة: هي شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة والباطنة. فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة...
وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها، فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة إلهية التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا. فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى...
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به، ويقتضيه علم الرب الذي تكلم به، وحكمته سبحانه. فمن ذلك: أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، فكذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به، فعروقها: العلم والمعرفة واليقين وساقها: الإخلاص، وفروعها: الأعمال، وثمرتها: ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة، والصفات الممدوحة، والأخلاق الزكية، والسمت الصالح والهدي والدل المرضي، فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور. فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله، والإخلاص قائم في القلب، والأعمال موافقة للأمر، والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها: علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء. وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة، التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. ومنها: أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها، فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب، إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح، والعود بالتذكر على التفكر، والتفكر على التذكر، وإلا أوشك أن تيبس...
ومن هاهنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات، ومن عظيم رحمته، وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده: أن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم. ومنها: أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب، ليس من جنسه، فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع، واستوى وتم نباته، وكان أوفر لثمرته وأطيب وأذكى، وإن تركه أوشك أن يغلب على الغراس والزرع، يكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته. ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به، فإنه يفوته ربح كبير. وهو لا يشعر. فالمؤمن دائما سعيه في شيئين: سقي هذه الشجرة، وتنقية ما حولها، فبسقيها تبقى وتدوم، وبتنقية ما حولها تكمل وتتم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقرر بما مضى أن الحق ما قاله الله أو فعله أو أذن فيه، وأن الباطل ما كان على غير أمره مما ينسب إلى الشيطان أو غيره من قول أو فعل، وأنه لا يصلح في الحكمة أن ينفي الحق ولا أن يبقى الباطل... وقص سبحانه كلام أوليائه الذي هو من كلامه، فهو أثبت الأشياء وأطيبها وأعظمها ثمرة، وكلام أعدائه الذي هو من كلام الشيطان، فهو أبطل الأشياء وأخبثها، قرب سبحانه ذلك بمثل يتعارفه المخاطبون فقال: {ألم تر} أي يا من لا يفهم عنا هذا المثل حق الفهم سواه! {كيف ضرب الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {مثلاً} أي سيره بحيث يعم نفعه؛ والمثل: قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأول؛ ثم بينه بقوله: {كلمة طيبة} أي جمعت أنواع الكرم فليس فيها شيء من الخبث، وتلك الكلمة {كشجرة طيبة}. ولما كانت لا تسر إلا بالثبات، قال: {أصلها ثابت} أي راسخ في الأرض آمن من الاجتثاث بالرياح ونحوها {وفرعها} عالٍ صاعد مهتز {في} جهة {السماء} لحسن منبتها وطيب عنصرها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى: {وبرزوا لله جميعاً إلى قوله تحيتهم فيها سلام}، فضرب الله مثلاً لكلمة الإيمان وكلمة الشرك. فقوله: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً} إيقاظ للذهن ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام، وذلك مثل قولهم: ألم تعلم. ولم يكن هذا المثَل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل. وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف لَمْ} التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدالّ عليها فعل {ضرب} بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به.
والاستفهام في {ألم تر} إنكاري، نُزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم، أو هو مستعمل في التعجيب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه، أو هو للتقرير، ومثله في التقرير كثير، وهو كناية عن التحريض على العلم بذلك.
والخطاب لكل من يصلح للخطاب. والرؤية علمية معلّق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام ب {كيف}. وإيثار {كيف} هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه.
وتقدم المثَل في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} في سورة البقرة (17).
وضَرْب المثل: نَظْم تركيبه الدال على تشبيه الحالة. وتقدم عند قوله: {أن يضرب مثلاً ما} في سورة البقرة (26).
وإسناد {ضرب} إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام.
والمثَل لما كان معنى متضمناً عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل {ضرب} به على وجه إجمال يفسره قوله: {كلمة طيبة كشجرة} إلى آخره، فانتصب {كلمة} على البدلية من {مثلاً} بدلَ مفصّل من مجمل، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله: {ومثل كلمة خبيثة}.
والكلمة الطيبة قيل: هي كلمة الإسلام، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك.
والطيبة: النافعة، استعير الطيب للنفع لحُسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية، وتقدم عند قوله تعالى: {وجرين بهم بريح طيبة} في سورة يونس (22).
والفَرع: ما امتد من الشيء وعَلا، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء. وفرع الشجرة غصنها، وأصل الشجرة: جذرها.
والسماء مستعمل في الارتفاع، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر.
وفي « جامع الترمذي» عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها" قال: هي النخلة، {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} قال: هي الحَنْظَل.
{كشجرة طيبة} أي: تعطيك طيبا تستريح له نفسك، إما منظرا أو رائحة أو ثمارا، أو كل ذلك مجتمعا؛ فقوله: {كشجرة طيبة} يوحى بأن كل الحواس تجد فيها ما يُريحها، وكلمة (طيبة) مأخوذة من الطيب في جميع وسائل الإحساس...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كلّ موجود طاهر ونظيف وذي بركة، وجميعها كشجرة طيّبة فيها الخصائص التالية:
كائن يمتلك الحركة والنمو، وليس جامداً ولا خاملا، بل ثابت وفاعل ومبدع للآخرين ولنفسه (التعبير ب«الشجرة» بيان لهذه الحقيقة).
هذه الشجرة طيّبة، ولكن من أيّة جهة؟ بما أنّه لم يذكر لها قسم خاص بها، فإنّها طيّبة من كلّ جهة.. منظرها، ثمارها، أزهارها، ظلالها، ونسيمها جميعها طيب وطاهر.
لهذه الشجرة نظام دقيق، لها جذور وأغصان، وكلّ واحد له وظيفته الخاصّة، فوجود الأصل والفرع فيها دليل على سيادة النظام الدقيق عليها.
أصلها ثابت محكم بشكل لا يمكن أن يقلعها الطوفان ولا العواصف. وباستطاعتها أن تحفظ أغصانها العالية في الفضاء وتحت نور الشمس، لأنّ الغصن كلّما كان عالياً يحتاج إلى جذور قوّية (أصلها ثابت).
إنّ أغصان هذه الشجرة الطيّبة ليست في محيط ضيّق ولا رديء، بل مقرّها في عنان السّماء، وهذه الأغصان والفروع تشقّ الهواء وتصعد فيه عالياً (وفرعها في السّماء). ومن الواضح أنّ الأغصان كلّما كانت عالية وسامقة تكون بعيدة عن التلوّث والغبار وتصبح ثمارها نظيفة، وتستفيد أكثر من نور الشمس والهواء الطلق، فتكون ثمارها طيّبة جدّاً...