المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (182)

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 182 )

والجنف الميل ، وقال الأعشى : [ الطويل ]

تجانِفُ عَنْ حِجْرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتي . . . وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا( {[1651]} )

وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي : [ الوافر ]

هُمُ الْمَوْلَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنَا . . . وإِنَّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ( {[1652]} )

ومعنى الآية على ما قال مجاهد : من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية( {[1653]} ) أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فالمعنى : من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم { فلا إثم ، عليه ، إن الله غفور } عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية { رحيم } به .

وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع : معنى الآية ، من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي( {[1654]} ) أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه ، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد ، لكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى . وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه : «فلإثم عليه » بحذف الألف .


[1651]:- في اللسان وغيره: (جو اليمامة)، وبلاد الجو تنسب إليها فيقال: (جو اليمامة) وفي رواية: (جل اليمامة)، أي عن جل أهل اليمامة. والبيت للأعشى يمدح هودة بن علي الحنفي في قصيدة طويلة – والجنف والتجانف: الجَوْرُ والمَيل. وقد قالوا: حَجْرُ اليمامة: قَصَبَتُهَا أو سوقها.
[1652]:- هو عامر الخصفي المحاربي. قاله أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون في التعليق على المفضليات بعد ذكر قصيدته الميمية التي أولها: مَنْ مُبْلِـغ سَعْدَ بْنَ نُعْمَـانَ مَـالِكـا وسَعْدَ بْنَ ذبْيَانَ الـذي قَدْ تَخَتَّمَــا ولم نجد له ترجمة ولا ذكراً في غير هذا الموضع، وهو من بني محارب بن خصفة العدناني. وفي "المؤتلف" للآمدي 154: عامر بن الظرب المحاربي إسلامي وهو غير هذا يقيناً، وغير عامر بن الظرب العدواني حكيم العرب. انتهى. وقال أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" عامر الرامي، ويقال الرَّام أخو الخضر، والخضر قبيلة في قيس عيلان (وهم بنو مالك بن طريف ابن خلف بن محارب بن نصفة بن قيس عيلان)، يقال لهم الخضر، روى محمد بن اسحق، عن منظور، عن عامر الرَّام أخي الخضر قال: أنا بأرض محارب إذ أقْبَلَتْ رايات، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، انتهى. وقال أبو عبيدة: المولى – في البيت- بمعنى الموالي، أي أبناء العم، فهو من وضع الواحد موضع الجمع، وفي خلاصة الخزرجي: عامر الرَّام صحابيّ: له حديث رواه أبو منظور عن عمه عنه.
[1653]:- لفظ (الإذاية) لفظ غير صحيح في القياس العربي، والذي في اللسان: الأذى: كل ما تأذيت به – آذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذيّة، وكذلك استعملت لفظة (إيذاء) – ويلاحظ أن لفظة (الإذاية) موجودة في كل النسخ الخطية، وفي البحر المحيط، ويظهر أنها كانت شائعة على الألسنة في المغرب العربي.
[1654]:- إنما أطلق الخوف على العلم لأن الإنسان لا يخاف شيئا حتى يعلم أنه مما يخاف منه، فهو من إطلاق المسبب على السبب مجازاً.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (182)

تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل ، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيدُ المبدل لها ، وتفرع عن وعيد المِّبدل الإذنُ في تبديلٍ هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقةِ الإصلاح بين الموصَي لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديراً بالإيصاء إليه فتركه الموصي أو كان جديراً بمقدارٍ فأجحف به الموصي ؛ لأن آية الوصية حضرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولاً إلى أمانته بالمعروف ، فإذا حاف حيفاً واضحاً وجَنَف عن المعروف أُمِر ولاة الأمور بالصلح .

ومعنى خاف هنا الظن والتوقع ؛ لأن ظن المكروه خَوف فأطلق الخوف على لازمه وهو الظن والتوقعُ إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه ، والقرينة هي أن الجنف والإثم لا يخيفان أحداً ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلح بين أهلها ، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي مِحْجن الثقفي :

* أخَافُ إذا ما مِتُّ أنْ لا أذُوقها *

أي أظن وأَعلم شيئاً مكروها ولذا قال قبله :

* تُرَوِّي عِظَامي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُها *

والجنف الحيف والميل والجور وفعله كفرح . والإثم المعصية ، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق ، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ولكنه في الواقع حيف في الحق ، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصي به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه .

والإصلاح جعل الشيء صالحاً يقال : أصلحه أي جعله صالحاً ، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة ؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا ، ويقال : أصلح بينهم لتضمينه معنى دخل ، والضمير المجرور ببين في الآية عائد إلى الموصي والموصى لهم المفهومين من قوله { موص } إذ يقتضي موصَى لهم ، ومعنى { فلا إثم عليه } [ البقرة : 173 ] أنه لا يلحقه حرج من تغيير الوصية ؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير .

والمعنى : أن من وجد في وصية الموصي إضراراً ببعض أقربائه ، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسباً ، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصي تبديل وصيته ، فلا إثم عليه في ذلك ؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم ، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصي لأنه آثر بعضهم ، ولذلك عقبه بقوله : { إن الله غفور رحيم } وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجاً للإذن من الله تعالى والتنصيص على أنه مغفور .

وقرأ الجمهور : « موص » على أنه اسم فاعل أو أوصى وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « موصٍ » بفتح الواو وتشديد الصاد على أنه اسم فاعل وصى المضاعف .