البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (182)

الجنف : الجور ، جنف ، بكسر النون ، يجنف ، فهو جنف وجانف عن النحاس ، قال الشاعر :

إني امرؤ منعت أرومة عامر***

ضيمي وقد جنفت على خصوم

وقيل : الجنف : الميل ، ومنه قول الأعشى :

تجانف عن حجر اليمامة ناقتي***

وما قصدت من أهلها لسوائكا

وقال آخر :

هم المولى وإن جنفوا علينا***

وأنا من لقائهم لزور

ويقال : أجنف الرجل ، جاء بالجنف ، كما يقال : ألام الرجل ، أتى بما يلام عليه ، وأخس : أتى بخسيس

{ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه } الظاهر أن الخوف هو الخشية هنا ، جرياً على أصل اللغة في الخوف ، فيكون المعنى : بتوقع الجنف أو الإثم من الموصي .

قال مجاهد : المعنى : من خشي أن يجنف الموصي ، ويقطع ميراث طائفة ، ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فوعظه في ذلك ورده ، فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته ، فلا إثم عليه .

{ إن الله غفور } عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية { رحيم } بِه .

وقيل : يراد بالخوف هنا : العلم ، أي : فمن علم ، وخرّج عليه قوله تعالى : { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله }

وقول أبي محجن .

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها***

والعلقة بين الخوف والعلم حتى أطلق على العلم الخوف ، وأن الإنسان لا يخاف شيئاً حتى يعلم أنه مما يخاف منه ، فهو من باب التعبير بالمسبب عن السبب ، وقال في ( المنتخب ) : الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم ، وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظنّ مخصوص ، وبين الظنّ والعلم مشابهة في أمور كثيرة ، فلذلك صح إطلاق كل واحد منهما على الأخر .

انتهى كلامه .

وعلى الخوف بمعنى العلم ، قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وقتادة ، والربيع ، معنى الآية : من خاف ، أي علم بعد موت الموصي أن الموصي حاف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق ، فلا إثم عليه ، أي : لا يلحقه إثم التبديل المذكور قبل ، وإن كان في فعله تبديلها ، ولكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى .

وقال عطاء : المعنى : فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً في عطيته لورثته عند حضور أجله ، فأعطى بعضاً دون بعض ، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك .

وقال طاووس : المعنى : فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً في وصيته لغير ورثته بما يرجع بعضه على ورثته ، فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه .

وقال الحسن : هو أن يوصي للأجانب ويترك الأقارب ، فيرّد إلى الأقارب ، قال : وهذا هو الإصلاح .

وقال السدي : المعنى : فمن خاف من موصٍ بآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض ، فأصلح بين الآباء والأقرباء ، فلا إثم عليه .

وقال علي بن عيسى : هو مشتمل على أمر ماضٍ واقع ، وأمر غير واقع ، فإن كانت الوصية باقية أمر الموصي بإصلاحه ، ورد من الجنف إلى النَّصَف ، وإن كانت ماضية أصلحها الموصى إليه بعد موته .

وقيل : هو أن يوصي لولد ابنته ، يقصد بها نفع ابنته ، وهذا راجع إلى قول طاووس المتقدم .

وإذا فسرنا الخوف بالخشية ، فالخوف إنما يصح في أمر مرتبط والوصية قد وقعت ، فكيف يمكن تعليقها بالخوف ؟ والجواب : أن المصلح إذا شاهد الموصي يوصي ، فظهرت منه إمارات الجنف أو التعدي بزيادة غير مستحق ، أو نقص مستحق ، أو عدل عن مستحق ، فأصلح عند ظهور الأمارات لأنه لم يقطع بالجنف والإثم ، فناسب أن يعلق بالخوف ، لأن الوصية لم تمض بعد ولم تقع ، أو علق بالخوف وإن كانت قد وقعت لأنه له أن ينسخها أو يغيرها بزيادة أو نقصان ، فلم يصر الجنف أو الإثم معلومين ، لأن تجويز الرجوع يمنع من القطع أو علق بالخوف .

وإن كانت الوصية استقرت ومات الموصي ، يجوز أن يقع بين الورثة والموصى لهم مصالحة على وجه يزول به الميل والخطأ ، فلم يكن الجنف ولا الإثم مستقراً ، فعلق بالخوف .

والجواب الأول أقوى ، ومَنْ : شرطية ، والجواب : فلا إثم عليه : و { من موص } متعلق ، بخاف ، أو بمحذوف تقديره : كائناً من موصٍ ، وتكون حالاً ، إذ لو تأخر لكان صفة ، كقوله : { جنفاً أو إثماً } فلما تقدم صار حالاً ، ويكون الخائف في هذين التقديرين ، ليس الموصي ، ويجوز أن يكون : مَنْ ، لتبيين جنس الخائف ، فيكون الخائف بعض الموصين على حد ، مَنْ جاءك مِنْ رجل فأكرمه ، أي : مَن جاءك مِن الرجال فالجائي رجل ، والخائف هنا موصٍ .

والمعنى : فمن خاف من الموصي جنفاً أو إثماً من ورثته ومَن يوصى له ، فأصلح بينهم فلا إثم على الموصي المصلح ، وهذا معنى لم يذكره المفسرون ، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف ، وأن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته ، ولا من يوصي له .

وأمال حمزة { خاف } وقرأ هو والكسائي وأبو بكر : موص ، من ، وص والباقون : موص ، من : أوصى ، وتقدم أنهما لغتان .

وقرأ الجمهور : جنفاً ، بالجيم والنون ، وقرأ علي : حيفاً ، بالحاء والياء .

وقال أبو العالية : الجنف الجهالة بموضع الوصية ، والإثم : العدول عن موضعها ، وقال عطاء ، وابن زيد : الجنف : الميل ، والإثم أن يكون قد أثم في ايثاره بعض الورثة على بعض ، وقال السدي : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد .

وأما الحيف فمعناه : البخس ، وذلك بأن يريد أن يعطي بعض الورثة دون بعض قال الفراء : تحيف مال أي : نقصه من حافاته ، وروي : من حاف في وصيته ألقي في ألوى ، وألوى وادٍ في جهنم .

{ فأصلح بينهم } : الضمير عائد على الموصي والورثة ، أو على الموصى لهما وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدل على ذلك لفظ : الموصي ، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له ، كما قيل في قوله : { وأداء إليه } أي : إلى العافي ، لدلالة من عفى له ، ومنه ما أنشده الفراء رحمه الله تعالى :

وما أدري إذا يممت أرضاً***

أريد الخير أيهما يليني

فقال : أيهما ، فأعاد الضمير على الخير والشر ، وإن لم يتقدم ذكر الشر ، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر .

والظاهر أن هذا المصلح هو الوصي ، والمشاهد ومن يتولى بعد موته ذلك من والٍ ، أو ولي ، أو مَن يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخل تحت قوله : { فمن خاف } إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم ، ولا وجه لتخصيص الخائف بالوصي ، وأما كيفية هذا الإصلاح فبالزيادة أو النقصان ، أو كف للعدوان { فلا إثم عليه } يعني : في تبديل الوصية إذا فعل ذلك لقصد الإصلاح ، والضمير : عليه ، عائد على من عاد عليه ضمير : فأصلح ، وضمير : خاف ، وهو : مَنْ ، وهو : الخائف المصلح .

وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، لما ذكر المبدل في أول الآية : وكان هذا من التبديل بين مخالفته للأول ، وأنه لا إثم عليه ، لأنه رد الوصية إلى العدد ، ولما كان المصلح ينقص الوصايا ، وذلك يصعب على الموصى له ، أزال الشبهة بقوله : { فلا إثم عليه } وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي ، وصرف ماله عن من أحب إلى من يكره . انتهى .

وهذا يرجع معناه إلى قوله الأول .

وقال أيضاً : إن الإصلاح يحتاج إلى الإكثار من القول ، وقد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل ، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح ، ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع .

انتهى كلامه .

{ إن الله غفور رحيم } .

قيل : غفور لما كان من الخائف ، وقيل : للمصلح رحيم حيث رخص ، وقيل : غفور للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والعهد والإثم إذ رجع إلى الحق ، رحيم للمصلح .

وقال الراغب : أي متجاوز عن ما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجر .

/خ182