هذه آية تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع ، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام كالشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات إنما هو بمسخر ومالك ، وقرأ يحيى بن عمارة وابن عباس «وأصبغ » بالصاد على بدلها من السين لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صاداً ، والجمهور قراءتهم بالسين ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن والأعرج وأبو جعفر وابن نصاح وغيرهم «نعمَه » جمع نعمة كسدرة وسدر بفتح الدال ، و «الظاهرة » هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك ، و «الباطنة » المعتقدات من الإيمان ونحوه والعقل .
قال ابن عباس «الظاهر » الإسلام وحسن الخلقة ، و «الباطنة » ما يستر من سيىء العمل ، وفي الحديث قيل يا رسول الله قد عرفنا الظاهرة فما الباطنة ؟ قال : ستر ما لو رآك الناس عليه لقتلوك{[9377]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : ومن «الباطنة » التنفس والهضم والتغذي وما لا يحصى كثرة ، ومن «الظاهرة » عمل الجوارح بالطاعة . قال المحاسبي رحمه الله «الظاهرة » تعم الدنيا و «الباطنة » تعم العقبى ، وقرأ جمهور الناس «نعمة » على الإفراد ، فقال مجاهد المراد لا إله إلا الله ، وقال ابن عباس أراد الإسلام ، والظاهر عندي أنه اسم جنس كقوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }{[9378]} [ إبراهيم : 34 ، النحل : 18 ] ، ثم عارض بالكفرة منها على فساد حالهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : { ومن الناس } ، وقال النقاش : الإشارة إلى النضر بن الحارث ونظرائه لأنهم كانوا ينكرون الله ويشركون الأصنام في الألوهية ، فذلك جدالهم ، و { بغير علم } أي لم يعلمهم من يقبل قوله ولا عندهم هدى قلب ولا نور بصيرة يقيمون بها حجة ولا يتبعون بذلك كتاباً بأمر الله يقر بأنه وحي ، بل ذلك دعوى منهم وتخرص ، وإذا دعوا إلى اتباع وحي الله رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة فسلكوا طريق الآباء .
{ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الارض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً }
رجوع إلى تعداد دلائل الوحدانية وما صحب ذلك من منة على الخلق ، فالكلام استئناف ابتدائي عن الكلام السابق ورجوع إلى ما سلف في أول السورة في قوله تعالى : { خَلَق السَّماوات بِغَير عمد } [ لقمان : 10 ] فإنه بعد الاستدلال بخلق السماوات والأرض والحيوان والأمطار عاد هنا الاستدلال والامتنان بأن سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض . وقد مضى الكلام على هذا التسخير في تفسير قوله تعالى { الله الذي خلق السماوات والأرض } الآيات من سورة إبراهيم ( 32 ) ، وكذلك في سورة النحل ( 3 ) .
ومعنى { سخر لكم } لأجلكم لأن من جملة ذلك التسخير ما هو منافع لنا من الأمطار والرياح ونور الشمس والقمر ومواقيت البروج والمنازل والاتجاه بها . والخطاب في { ألم تروا } يجوز أن يكون لجميع الناس مؤمنهم ومشركهم لأنه امتنان ، ويجوز أن يكون لخصوص المشركين باعتبار أنه استدلال .
والاستفهام في { ألم تروا } تقرير أو إنكار لِعدم الرؤية بتنزيلهم منزلة من لم يروا آثار ذلك التسخير لعدم انتفاعهم بها في إثبات الوحدانية . والرؤية بصرية . ورؤية التسخير رؤية آثاره ودلائله . ويجوز أن تكون الرؤية علمية كذلك ، والخطاب للمشركين كما في قوله { خلق السماوات بغير عَمد ترونها } .
وإسباغ النِعم : إكثارها . وأصل الإسباغ : جعل ما يلبس سابغاً ، أي وافياً في الستر . ومنه قولهم : درع سابغة . ثم استعير للإكثار لأن الشيء السابغ كثير فيه ما يتخذ منه من سَرْد أو شُقَق أثواب ، ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقة فقيل : سوابغ النعم .
والنعمة : المنفعة التي يقصد بها فاعلُها الإحسان إلى غيره .
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر نِعَمهُ } بصيغة جمع نعمة مضاف إلى ضمير الجلالة ، وفي الإضافة إلى ضمير الله تنويه بهذه النِعم . وقرأ الباقون { نِعْمَةً } بصيغة المفرد ، ولما كان المراد الجنس استوى فيه الواحد والجمع .
والتنكير فيها للتعظيم فاستوى القراءتان في إفادة التنويه بما أسبغ الله عليهم . وانتصب { ظاهرة وباطنة } على الحال على قراءة نافع ومن معه ، وعلى الصفة على قراءة البقية .
والظاهرة : الواضحة . والباطنة : الخفية وما لا يعلم إلا بدليل أو لا يعلم أصلاً .
وأصل الباطنة المستقرة في باطن الشيء أي داخله ، قال تعالى : { باطنه فيه الرحمة } [ الحديد : 13 ] فكم في بدن الإنسان وأحواله من نِعم يعلمها الناس أو لا يعلمها بعضُهم ، أو لا يعلمها إلا العلماء ، أو لا يعلمها أهل عصر ثم تنكشف لمن بعدهم ، وكلا النوعين أصناف دينية ودنيوية .
{ وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ }
الواو في قوله { ومن الناس من يجادل } واو الحال . والمعنى : قد رأيتم أن الله سخّر لكم ما في السماوات وأنعم عليكم نعماً ضافية في حال أن بعضكم يجادل في وحدانية الله ويتعامى عن دلائل وحدانيته . وجملة الحال هنا خبر مستعمل في التعجيب من حال هذا الفريق . ولك أن تجعل الواو اعتراضيَّة والجملة معترضة بين جملة { ألم تروا أن الله سخر لكم } وبين جملة { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض } [ لقمان : 25 ] .
وقوله { ومِنَ النَّاس } من الإظهار في مقام الإضمار كأنه قيل : ومنكم ، و { مِن } تبعيضية . والمراد بهذا الفريق : هم المتصدون لمحاجة النبي صلى الله عليه وسلم والتمويه على قومهم مثل النضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وعبد الله بن الزِّبْعَرى .
وشمل قوله { بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } مراتبَ اكتساب العلم وهي إما : الاجتهاد والاكتساب ، أو التلقي من العالم ، أو مطالعة الكتب الصائبة . وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحج ( 8 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.