المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ} (85)

وقوله تعالى : { قالوا تالله تفتأ } الآية ، المعنى تالله لا تفتأ فتحذف لا في هذه الموضع من القسم لدلالة الكلام عليها فمن ذلك قول امرىء القيس : [ الطويل ]

فقلت يمين الله أبرح قاعداً*** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي{[6788]}

ومنه قول الآخر :

تالله يبقى على الأيام ذو حيد*** بمشمخر به الظيان والآس{[6789]}

أراد لا يبرح ولا يبقى ، وقال الزجاجي{[6790]} : وقد تحذف أيضاً ما في هذا الموضع .

قال القاضي أبو محمد : وخطأه بعض النحويين ، ومن المواضع التي حذفت فيها لا ويدل عليها الكلام قول الشاعر : [ الطويل ]

فلا وأبي دهماء زالت عزيزة*** على قومها ما قبل الزَّنْدَ قادِحُ{[6791]}

وقوله ما قبل الزند قادح يوجب أن المحذوف «لا » ، وليست «ما » ، وفتىء بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل ، تقول : والله لا فتئت قاعداً كما تقول : لا زلت ولا برحت ، ومنه قول أوس بن حجر : [ الطويل ]

فما فتئت حتى كأن غبارها*** سرادق يوم ذي رياح يرفَّع

و «الحرض » : الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس ، وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور «حَرَضاً » بفتح الراء والحاء*** وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضمهما ، وقرأت فرقة «حُرْضاً » بضم الحاء وسكون الراء . وهذا كله المصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع بلفظ واحد ، كعدل وعدو ، وقيل في قراءة الحسن : انه يراد : فتات الأشنان أي بالياً متفتتاً ، ويقال من هذا المعنى الذي هو شن الهم والهرم : رجل حارض ، ويثنى هذا البناء ويجمع ويؤنث ويذكر ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ البسيط ]

إني امرؤ لجَّ بي حبٌّ فأحرضني*** حتى بليت وحتى شفني السقم{[6792]}

وقد سمع من العرب : رجل محرض ، قال الشاعر - وهو امرؤ القيس : [ الطويل ]

أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضاً*** كإحراضِ بكر في الديار مريض{[6793]}

و «الحرض » - بالجملة - الذي فسد ودنا موته ، قال مجاهد : «الحرض » : ما دون الموت{[6794]} ، قال قتادة : «الحرض » : البالي الهرم ، وقال نحو الضحاك والحسن ، وقال ابن إسحاق : { حرضاً } معناه فاسد لا عقل له ؛ فكأنهم قالوا على جهة التعنيف له : أنت لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى الهلاك .


[6788]:البيت من قصيدة ا امرئ القيس الوجدانية يقول في مطلعها: "ألا عم صباحا أيها الطلل البالي"، وفي البيت الذي قبله تقول له الحبيبة: "سباك الله إنك فاضحي " فيجيبها: لن أبرح مكاني حتى لو أدركوني وقطعوا أوصالي. وهذا مما يؤكد شدة هيامه ووجده بها إلى درجة التفاخر والشجاعة التي هي خط القصيدة. و "يمين الله" تكون بالرفع على أنه مبتدأ خبره مضمر تقديره: يمين الله لازمني، وتكون بالنصب على إضمار فعل، مثل فعل العرب: "أمانة الله"، و "أبرح" معناه: "لا أبرح" بحذف (لا) لدلالة المعنى عليها، وذلك لأن الفعل بعد القسم غير مؤكد، ولو كان الكلام إثباتا لوجب توكيد الفعل بالنون فيقول: "أبرحن"، والأوصال: جمع وصل بالكسر، وهو كل عضو ينفصل من آخر.
[6789]:البيت في "الصحاح"، وقد نسبه إلى الهذلي، وقال محققه: هو مالك بن خالد الخناعي، و "وحيد" بكسر الحاء وفتح الياء جمع " حيدة" على وزن بدرة وبدر، قال في الصحاح: والحيدة: كل نتوء في قرن الوعل والجبل، والحيد: حرف شاخص يخرج من الجبل. والظيان والآس: نوعان من الأزهار والرياحين التي تنبث في الجبال، والمشمخر: الجبل العالي المرتفع في السماء، والشاهد في البيت حذف حرف النفي (لا) لأن المعنى يدل عليه، والتقدير كما قال ابن عطية: "لا يبقى على الأيام".
[6790]:هو عبد الرحمن بن إسحق النهاوندي الزجاجي، أبو القاسم، شيخ العربية في عصره، ولد في نهاوند، ونشأ في بغداد، وتوفي في طبرية، وله من الكتب المطبوعة: " الجمل الكبرى " و "الإيضاح الكافي"، وله من الكتب التي لا تزال مخطوطة: "الزاهر" في اللغة. وكانت وفاته سنة 337 هـ، 949م. (الأعلام، بغية الوعاة، وفيات الأعيان).
[6791]:البيت مجهول القائل، وقد ذكره البغدادي في خزانة الأدب الكبرى شاهدا على أنه قد فصل بالجار والمجرور أعني الجملة القسمية "وأبي الدهماء" بين (لا) النافية و (زال). وذكره ابن هشام في الجملة الاعتراضية شاهدا على أنها تكون بين حرف النفي ومنفية. وقال الفراء في معاني القرآن: "إن (لا) قد تضمر مع الأيمان لأنها إذا كانت خبرا لا يضمر فيها (لا)، لم تكن إلا بلام، ألا ترى أنك تقول: والله لآتينك، ولا يجوز أن تقول: والله القيس: فقلت يمين الله أبرح... البيت، وأنشد بعضهم: فلا وأبي دهماء زالت عزيزة... البيت " . ودهماء: اسم امرأة، والشاعر يقسم بوالدها، و جملة (لا زالت عزيزة ) جواب القسم، وقد روى البيت: (مادام للزند قادح).
[6792]:البيت للعرجي عبد الله بن عمر بن عبد الله، ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن شاهدا على أن معنى أحرضني هو: أذابني، وذكره في اللسان شاهدا على أن أحرض بمعنى: أفسد، وقال: إن معنى "شفني السقم": أذابني.
[6793]:الآذواد: جمع ذود، وهو الثلاثة إلى العشرة من الإبل، وقد ذكره في اللسان دليلا على أن المحرض هو الهالك مرضا، الذي لاحي فيرجى ولا ميت فيوءس منه، والبكر: الفتي من الإبل، وجمعه: أبكر وبكار، يقول: إن المرء مهما كان صاحب مال يصيبه المرض الذي لا رجاء بعده تماما كالبكر القوي من الإبل حين يصبح في الديار مريضا.
[6794]:ومن ذلك قول الشاعر: سرى همي فأمرضني وقدما زادني مرضا كذاك الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ} (85)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قالوا}، أي قال بنوه يعيرونه: {تالله تفتؤا}، يعني والله ما تزال {تذكر يوسف حتى تكون حرضا}، يعني الدنف، {أو تكون من الهالكين} يعني الميتين...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره: قال ولد يعقوب الذين انصرفوا إليه من مصر له حين قال "يا أسَفَا على يُوسُفَ": تالله لا تزال تذكر يوسف... لا تفتر من حبه...

وقوله: "حتى تَكُونَ حَرَضا "يقول: حتى تكون دنف الجسم، مخبول العقل. وأصل الحرض: الفساد في الجسم والعقل من الحزن أو العشق... عن ابن عباس، قوله: "حتى تَكُونَ حَرَضا" يعني: الجهد في المرض البالي...

عن مجاهد: "حتى تَكُونَ حَرَضا" قال: الحرض: ما دون الموت...

وقوله: "أوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ" يقول: أو تكون ممن هلك بالموت...

عن مجاهد: "أوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ": من الميتين...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

أي لا تزال تذكر يوسف، ولا تنسى ذكره، حتى تسلو من حزنك، كأنهم دعوه إلى السلو من حزنه؛ لأنه بالذكر يتجدد الحزن، ويحدث...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وإنما قالوا هذا القول إشفاقا عليه وكفا له عن البكاء أي لاتزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه، لأنه كان قد أشفى على ذهاب بصره وفساد جسمه، أو تموت بالغم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و «الحرض»: الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

فلما رأوا أنه قد فاتهم ما ظنوا أنه يكون بعد ذهاب يوسف من صلاح الحال مع أبيهم بقصر الإقبال عليهم، ووقع لأبيهم هذا الفادح العظيم، تشوف السامع إلى قولهم له، فاستأنف الإخبار عنه بقوله: {قالوا} أي حنقاً من ذلك {تالله} أي الملك الأعظم، يميناً فيها تعجب {تفتؤا} أي ما تزال {تذكر يوسف} حريصاً على ذكره قوياً عليه حرص الفتى الشاب الجلد الصبور على مراده {حتى} أي إلى أن {تكون حرضاً} أي حاضر الهلاك مشرفاً عليه متهيئاً له بدنف الجسم وخبل العقل -كما مضى بيانه في الأنفال عند {حرض المؤمنين على القتال} {أو تكون} أي كوناً لازماً هو كالجبلة {من الهالكين}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويبلغ الحقد بقلوب بنيه ألا يرحموا ما به، وأن يلسع قلوبهم حنينه ليوسف وحزنه عليه ذلك الحزن الكامد الكظيم، فلا يسرون عنه، ولا يعزونه، ولا يعللونه بالرجاء، بل يريدون ليطمسوا في قلبه الشعاع الأخير: (قالوا: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين!). وهي كلمة حانقة مستنكرة. تالله تظل تذكر يوسف، ويهدك الحزن عليه، حتى تذوب حزنا أو تهلك أسى بلا جدوى. فيوسف ميؤوس منه قد ذهب ولن يعود!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وجواب القسم هو {تفتأ تذكر يوسف} باعتبار ما بعده من الغاية، لأن المقصود من هذا اليمين الإشفاق عليه بأنه صائر إلى الهلاك بسبب عدم تناسيه مصيبة يوسف عليه السلام وليس المقصود تحقيق أنه لا ينقطع عن تذكر يوسف. وجواب القسم هنا فيه حرف النفي مقدر بقرينة عدم قرنه بنون التوكيد لأنه لو كان مثبتاً لوجب قرنه بنون التوكيد فحذف حرف النفي هنا...

قوله: {يا أسفى على يوسف} تعريض بدعاء الله أن يزيل أسفه بردّ يوسف عليه السلام إليه لأنه كان يعلم أن يوسف لم يهلك ولكنه بأرض غربة مجهولة، وعلم ذلك بوحي أو بفراسة صادقة...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

كانت الإجابة غير مخففة لآلامه، بل كانت مؤججة لها، كانت إجابة من لا يهتم بالأمر في ذاته، والحزين يحتاج إلى من يشاركه في الحزن، لا إلى من يلومه على حزنه، ويل للشجي من الخلي، والحرض هو المريض الذي أشرف على الهلاك أو أذابه الهم والمرض. والمعنى أنهم يؤكدون بالقسم أنه لا يزال يذكر يوسف حتى يؤدي به الأمر أن يكون في مرض دائم مستمر يذيب نفسه، وينتهي بالهلاك لا محالة،،و {أو} هنا بمعنى الواو...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وفوجئ أولاده بحديثه عن يوسف، فقد أصبح شيئاً قديماً جدّاً، وانتهى كحقيقة، لقد أصبح ذكرى ميتةً، فما باله يعيدها إلى الحياة ليربك حياتهم من جديد، وليبعث فيهم عقدة الإحساس بالذنب؟ ولهذا واجهوه بعنف أن يرحم نفسه أو أن يرحمهم، لما اختزنوه من شعورٍ بالألم: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}...